التخطي إلى المحتوى الرئيسي
"سوف أكتب رغم كل شيء، سوف أكتب على أي حال، إنه كفاحي من أجل المحافظة على الذات" كافكا
فاطمة الشيدي
26_7_2025


إلى زياد الرحباني في غيابه الفادح:

إلى زياد الرحباني:
عم مساءً ياصديقي الكبير هناك حيث العتمة والنور في لقاء أبدي، حيث لا نعرف وربما بت تعرف أنت الآن.
كيفك أنت؟ 
أكتب لك الآن عبر الأثير رسالة أظنها وفق منظوري الكوني الحالم ستصلك وأظنها ستخفف عنك شيئا من براح الوحدة التي ربما تروقك الآن وقد كانت خيارك العظيم كثيرا. 
لقد أوجعتن(ي/ا) برحيلك بقدر ما أوجعت فيروزتك وفيروزتنا العظيمة؛ الأم التي كان الفقد قدرها الأليم، والصوت الملائكي الذي نفث فينا الحياة في لحظات كثيرة كانت _أي الحياة_ غير ممكنة. الصوت الأبيض _إن كان للصوت لون_ صديق الأرواح الهشة والمهمشة والمهشمة والأحلام الممكنة وغير الممكنة.
الصوت الذي كان يدخل قلوبنا دون أن يطرق بابا وهو يحمل رائحة تشبه مزيج الياسمين والدمع، والدم والزعفران أو رائحة مخاض الأرض في انبثاق الصباح من رحم الليل. 
ياصديقي الغريب ترحل الآن مخلفا في أكبادنا المتشظية لتشظي كبدك ألحانك وكلماتك ونظرة عينك المنكسرة، وصمتك الطاعن في كل لقاء؛ تلك التفاصيل التي كانت تحمل انكسارك الذي لم ينتبه له أحد، وخذلانك المبين الذي لم يحفل به أحد.
أيها العاشق الفذ الذي خذله الحب، والعبقري الكبير الذي خانه الحظ في الحياة؛ ها توجع الغرباء برحيلك وبقراءة وجعك، وهاهم يستقرئون أرواحهم في مراياك التي تعكس أحلامك المنكسرة وأوجاعك النبيلة، فيتبنونها ويحتفون بها ويأسسون عليها تاريخ العدم وقدر المبدعين 
الذين يحرقهم الوعي الفارق والغربة الجارحة، فيصبحون أبناء الحزن النبيل.
 يازياد الثورة والحب معا وهل الثورة إلا حب وهل الحب إلا ثورة. هل كنت تفكر مجرد التفكير أنك محبوب لهذا الحد؟! ولذاتك فقط، لعبقريتك الفذة، وفكرك المتمرد وثوريتك الحادة، بعيدا عن فيروز الصوت السماوي الخالد وعن عائلتك وتاريخها الفني المجيد في الضمير والذاكرة اللبنانية والعربية والإنسانية.
ربما لو علمت لأجلْت موتك قليلا، لاهتممت بكبدك التي تشظّت مما تحمّلت من آلام.
لآخيت ظلا حلميا يجعلك لا تعيش وحيدا وغريبا، ومخذولا دائما كما عشت وكما مت،  ولحملت آلام صلبك أكثر، ولم تسقط في فخ العدم الكبير الذي استسلمت له طائعا.
ولكن هل يستطيع من مثلك أن لايعيش غريبا ككل العباقرة والمبدعين الذي عبروا هذه البسيطة ورحلوا عنها دون أن ينتبه أحد إلا لما تركوا من أثر.
أعرف ياصديقي أنك كنت روحا معذبة وثائرة ورافضة ونافرة من كل شيء فلا تتجلى إلا في الكلمة واللحن وأن تلك الروح لم تستطع أن تحيا وسط عالم الكذب الفج، والنفاق الأنيق، والتفاهة السافرة والادعاء المقنّع.
روحك الهشة والهادرة والرافضة للزيف والادعاء لم يمكنها أن تواجه العالم إلا بمسكّنات الألم الشعر والموسيقى، ومغربات الروح ومغيّبات الجسد، كنت تغيب لتهرب، لتتحد بذاتك النقية، وكان وعيك ينحت جسدك وليت الفتى حجر.
أخ أيها المبدع الحقيقي كم كنت صادقا وحقيقيا في أزمنة الزيف وأمكنة النفاق والقهر التي جمعتنا بك، وكم حاولت أن تحل  المعادلة بين والدين كبيرين وإبداع خالص، وقد جرت العادة أن لا يظهر أبناء المبدعين الكبار بشكل موازٍ لآبائهم ولا يجدون مكانتهم سواء كانت الام أو الأب أو كلاهما.
فكما لا يترك الدكتاتور خلفه جيلا سياسيا واعيا ولايخلّف الأب الصارم أبناء أقوياء لا يخلف المبدعون أبناء ذو مكانة في الفن والظهور بل أن أغلبهم يذهب بعيدا عن عمل والديه وموهبته وشهرته، وحتى من يمارس نفس العمل أو يحترف الإبداع يكون صورة ضعيفة وناقصة وربما مشوهة من الأب أو الأم، إلا أنك ياصديقي الموسيقي الموهوب والمبدع العبقري _وقد تفردت بوعي مائز وموهبة عظيمة_ كنت خاصا وخالصا لذاتك فاستطعت أن تخرج عن سلطة الوالدين لتكون موازيا لهما، لقد خرجت عن كل سلطة فكنت فردانيا متفردا وعبقريا خاصا،  بعمق ووعي ذاتي تماما.
لقد غيرت المعادلة وهزمت العادة ونجحت مع كل صوت.
إذا أيها المبدع الفريد والعبقري الذي لايشبه إلا نفسه، الخاسر الفاشل في الحياة الناجح الرابح في الفن.
أيها العاشق المخذول الذي ملأ الدنيا بجنونه وشغل الناس بفرادته الساخرة ووعيه الجارح؛ كن بسلام ورحمة في صمتك القادم وسنظل نثرثر عنك حتى نصمت، وسيظل الكلام يأخذ من ابتكاراتك،  وستظل الموسيقى تستطيل في جملها بك وعنك كلما رددنا بعض جنونك العظيم.
لروحك الرحمة والسلام
ولأثرك الخلود

تعليقات