التخطي إلى المحتوى الرئيسي
"سوف أكتب رغم كل شيء، سوف أكتب على أي حال، إنه كفاحي من أجل المحافظة على الذات" كافكا

ظفار 2021

 فاطمة الشيدي 

31_7_2021



كنا نخصص شهر يوليو للسفر غالبا هروبا من جحيم المكان، وتخلصا من أثقال عام رزحنا تحت وطأته بلا هوادة.

منذ عامين تعطلت كل مشاريعنا، وكبّل الخوف كل شيء حتى أحلامنا البسيطة.

فعشنا نصنع التفاصيل هروبا من الضجر والملل.

ندرك اليوم بعد عامين ثقال أن الجنة داخل الإنسان أولا وأخير وأن السؤال الأهم مع من؟! وليس كيف ومتى؟

وأن التفاصيل يمكن صناعتها بمهل وجمال تماما كالقهوة.

وأن الأصدقاء يمكن أن يكونوا من غير البشر .

بالنسبة لنا أصبحت القطط والشجر عائلة أقرب من الكثيرين؛ فصرنا نهتم لهم وبهم أكثر وأكثر تماما كالكتب والموسيقا.

تواصلنا مع البلد كان أكثر جمالا فزرنا أغلب مناطق السلطنة في الشتاء. وبين إغلاق وآخر وبين ارتفاع ونزول في مستوى الوباء وعدد الحالات كنا نسرق أوقاتا قليلة للحياة بعيدا عن أخبار الموت والمرض.

وها هي ظفار بلاد الرذاذ والجمال والاخضرار في صيفنا اللاهب محطتنا الجديدة بعد أن أضحى السفر مستحيلا أو مصادرا بأيام طويلة من الحجر بعدها.

 قضينا في ظفار بضع أيام من الدهشة، من السلام، من الجمال، من الحب، من الأزرق، من الأخضر، من الجبال، من البحر.

من 25/7_ 31/7 في ظفار الخريف والرذاذ  والمطر والصمت إلا من حوار الطبيعة الممتد من الروح للروح، بلاد اللبان والبخور والعطر.

نستيقظ كل يوم حفاة إلا من الفرح، ونهرع إلى روح المكان الذي يغفو بين يدي البحر، ثم نسابق اللهفة فينا إلى الأخضر الشاهق، والسهل الممتد اخضرارا وبهاءً؛ من أتين إلى عيون الطبيعة الذارفة جمالا وماء وشلالات تبهر الإنسان "آثوم، وجرزيز ، ورزات" إلى المغسيل حيث البحر الهادر بعنفوان وغضب دفين.

نسابق الغيوم في طريقنا المشغول بالموسيقا والحب والفرح الخفيف والترقب الراغب في الكثير من الدهشة، ونتمدد مع الهواء المشبع بالرذاذ، ونغتسل بالمطر الذي يغازلنا بدفء بين الفينة والأخرى وننسكب فيه ونشهق معه متعة والتذاذا.

نشرب ماء النارجيل طمعا في المزيد من اللذة والكثير من المكان، نتأمل "الجِمال" في عبورها المتسيّد، وننتظرها بتقدير لتعبر.

ننظر بانبهار وإعجاب للحيوانات التي تمشي بهدوء وثقة من وثق في المكان وأهله بل وإجبار العابرين على ذلك فهي ربة المكان وهم الضيوف، وللجبال في صخب الاخضرار وعمقه، وللبحر في غضبه الدفين ولونه المتوزع بين الأخضر والأبيض.

للأشجار التي تنمو بلا يد تغرسها أو تعتني بها إلا يد الرب وروح الطبيعة، وغنج الزهور بكل لون والأبيض سيدها.

ومع القليل من المدينة في المقاهي والمولات والأسواق الشعبية كسوق الحافة نمضي أيامنا القليلة في العدد، الكثيرة في الجمال والمتعة والدهشة بعد صيفين من الحصار والعزلة القاتمة رغم كل محاولات الحياة.

المدينة حيث لا تفاصيل إلا في المدينة، لا أحزان لا أوجاع تئن تحن جلود أصحابها، لا دمع لا كذب لا أوهام لا أورام، لاانتفاخات أو علل لابهرجة أو ادعاءات إلا في المدينة.

الريف خلو من كل هذا. لون واحد وقلب واحد وضحكة واحدة ممتدة من الظل للظل ومن النور للنور ، ودمعة واحدة تسكن الأحداق من الحب حتى الألم. 

الحب هو الحب، والجمال لا يقبل الجدل، والسعادة يانعة كثمرة ناضجة على وشك السقوط.

لا أقنعة ولا مواربات ولا قسمة على أكثر من عدد ومن قلب ومن فرح.

هذا يحدث في المدينة فقط، يحدث في العتمة التي تفصل نورها عن ظلها، حلكتها عن ضيائها، كذبها عن حقيقتها.

وتفصله تفصيلا على ما تشاء. الزيف الذي تغطي فتنته كل شيء، الضحكات، والدموع، والحكايات، والقلوب،  وترتق شروخ الأسقف وشروخ القلوب.

المدينة التي تتوسطها الأسواق ويعمها الأرق والصداع وتختصرها الوجوه الملونة هي التفاصيل الكثيرة والمتعددة والزائفة والتي لا نستطيع غيرها مع كل إيماناتنا بالأخضر والأزرق النقيين حتى الكمال .

نتشرب الجمال والدهشة بكل مساماتنا من ظفار، ونتأمل في روح المكان ونستحضر روح الرب الحنون وهي ترعى كل شيء وتحيط البشر بالعناية الكبرى وهم يعيشون الخوف وخطر كائن صغير متربص ولامرئي.

نتأمل الإنسان كيف أصبح يفر خوفا من أخيه الإنسان ويلجأ للطبيعة وحنانتها وأمانها.

نخزّن البهجة في أرواحنا وأجسادنا القادمة من جحيم الشمال ونحن نتأهب للعودة إليه، ونستحضر  جمال المكان  ودروس الرب دائما ونقرؤها في كل مكان هنا أو هناك وندرك أن ثمة حكمة ما أبدا،  وثمة جمال دفين في أعماقنا وفي كل مكان؛ سننبشه ونستحضره ونعيشه مهما تغيرت الظروف وقسى المناخ وقلت مبهجات الحياة فكنز الإنسان الحقيقي داخله بالمحبة والصدق والسلام، ومعجزته كامنة في وعيه وانبثاقات ذلك الوعي وأدواته كالقراءة والموسيقا والسفر وكل إشراقات الحياة ومبهجاتها.

فالمجد للرب الذي منحنا روح الجمال. والمجد للطفه الذي يغمر الإنسان ويهديه ويرأف به متى ما آمن وسعى. 💚🪁

تعليقات

‏قال غير معرف…
مرحبا دكتورة أسعد الله أوقاتك زرتينا في ظفار وللأسف قرأت هذه المقالة متأخرة وإلا لنا الشرف باستضافتك فيها والله يسعدك ويحفظك تعجبني جداً مقالاتك وكتاباتك ولا أفوتها أبداً وعرفتها بالصدفة عن طريق هذه المدونة الجميلة وشكراً لكِ على كمية الجمال الذي رسمته في مخيلة قرائك عن روعة وجمال ظفار.