التخطي إلى المحتوى الرئيسي
"سوف أكتب رغم كل شيء، سوف أكتب على أي حال، إنه كفاحي من أجل المحافظة على الذات" كافكا

كنت في البدء شجرة


كنت في البدء شجرة .دار الانتشار العربي .بيروت. 2017 

كنت في البدء شجرة

في حياةٍ أخرى ماكنت أنا
كنت نخلةً سامقةً نبتت عنوةً في صحراءٍ على مشارفِ الصمت
ووزّعت ظلَّها على حباتِ الرمال
أو لعلني كنت سمرةً طيبةً توقظ الحنينَ في ليل السمّار
وتشغل الغرباء بالغناء
أو كنت سدرةً تغتسل بعشقِها النساء
أو غافةً تحرس الأفق
لعلني كنت زهرةَ ليلكٍ نبتت سهوا عند ناصيةِ شارع ما
وحرست أسرار العشاق الذين يترصدون الزوايا لاستراق قبلة عابرة
المهم أنني كنتُ في البدء شجرة
أعرف هذا الآن من رائحة جسدي ليلا
حين يضوّع عطرا يشبه حقل رياحين أو نعنع بري
ومن تفتّح حواسي على اخضرار الحياة
ومن الماء الذي يتغلغل في روحي تماما
حين ينزل المطر


هكذا يحدث غالبا
أكتب تماما كما يعمل نحاتٌ مهووس
 يشرب قنينةَ خمرٍ كاملة
ثم يقترب من جذعِ شجرةٍ قرر أن يحوّلها لامرأة
يبكي في البدءِ عند أقدامها
يعتذر لها عن قسوةِ الفأس ولحظات الموت
وأنه سيحرمها من الهواء والماء والغابة
والعصافير، وتحديدا من نقار الخشب
يقول لها هذا تماما سيكون دوري منذ اللحظة
 مع أنك لن تشعري بدغدغات إزميلي
كما كنت تضحكين للثمات منقاره
ثم يخبرها عن فكرة الخلود والفن
ويعدها بأنه سيتجول بها في كل متاحف العالم
وأن الجميعَ سيشير إليها بانبهار
لكنه يهرب فجأة من بين يديها
لأنه يشعر أنها سترفسه، لو لم يتوقف عن قول هذه الترّهات
أنا أيضا هكذا أنهي النص، خوفا من رفس الكلمات
أو اتصالها معا لتشكل حبلا، يلتفُّ حول رقبتي ليخنقني
فأنتم لا تعرفون قوة الكلمات الحقيقية خاصةً إذا أتحدن
واسألوا أجهزة الأمن العربي!
ولذلك ليس عفوا أن يقول سيوران "الكلمة خنجرٌ لا يرى"
ولأنني امرأة جبانة تخاف الخنجر والحبل والرفس
 اكتب نصوصًا قصيرةً غالبا



متواليات الهشاشة

1.
أيها الشعر لا تذهب بعيدا
أرجوك
فأنا ولدتُ برئة واحدة
وصدري موبوء بالربو والكلمات
حررني من الكلام العالق بالمريء
وذلك الذي يحزّني في الحنجرة
حررني من براثن الرؤيا
وصرخات الرفض المكبوتة
من شوكةٍ في الفؤاد
وجمرة مستعرة كالجوي
تحرّق كبدي
ولا تستطيب إلا رائحة الورق والاحتراق
امسح على جرحي القديم بقصائدَ عنترة
وأرتق ثقوبي بلامية "الشنفرى"
وأحزان الشعراء المنفيين
بانقسامات الرؤية والوعي
وأوجاع الغرباء
كقروح الملك الضليل
وعزلة "المعري"
وتشظيات "السيّاب"
خذني إليك بكل بيت جميل ذاهب في التصاعد والارتقاء

2.
أيها الحب اقترب أكثر
فأنا مذ كنتُ محاصرة بالخوف والرعب والظلام
وثمة عنكبوت أسود ينسج حكاياتِه وبيوتِاته الواهية في كل مكان من جسدي وروحي
حرّرني مني
من عقدة الذنب
والأماكن المغلقة
من الصمت المطبق على صدري ككابوسٍ يتكرر كل ليلة
ساعدني كي أصرخ
كي أدلل أحزاني بقصائدَ العشق الباهتة
وأسكر بالبوح
وزّعني في أغنيات الماء والتيه
وألحان المسافات والمدى
كي أردد أناشيد اللذّة بحرية وجنون
اجعل أظافري أزاميلَ المجاز الطري
كي أرسمَ لوحاتِ اللوعةِ المرهفة على ظهرك
وأنقش منمنماتِ الرغبة الحارقةِ بألوان قوس قزح
وأحفر مدنا من سحاب وندى
بمتاهات كثيرة متشابكةِ المداخل والمخارج
أختبئ فيها كلما داهمني الخوف والحزن

3.
أيها البحر أغرقني في زبدِك الرهيف
كي أدلل هشاشة قلبي
وأعرني الكثيرَ من ملحك الحنون
كي لا تفسدَ ذاكرة أحلامي المريضة
اقبلني حوريةً خرقاء بنصف جسد
ونصف قلب
غنِّ لي نصفَ أغنيةٍ على وهجِ نصفِ قمر
وموجةٍ رعناء تنكسر بلذة
ثم تعاود ارتجال الفرح
وتضحك حين تلمس أقدام الشاطئ في الظلام
وتغريه بالسعي خلفَها
ضريرا متولّها
قبلني نصفَ قبلةٍ
وعمّدني بنصفِ أمنية
فأنا ألتذّ بالنقص
وترعبني الأشياءُ الكاملة

4.
أيها الليلُ اشملني بالحلكة اليابسة
والحكمةِ الضارية
كي أنادم شجيراتِ السمرِ التي تنام في الوادي وحيدة
تحتضن الظلامَ
أقرضني عينيكَ المسمولتين كي أتتبع عوراتِ العالم الموجعة
للأمهات والأطفال
وللصعاليك والشعراء
وخذ ما تبقي من حلمي القديم
وزّعه على القططِ والكلابِ الحائمة في جوفك
أو على السكارى والمتشردين
فله رائحة الخبزِ
ودفء الأجنة
وإشراقة قلبين غضّين عند التحام الهوى
سيكفيهم مؤونة الشتاء
وسيكفيني عبء انكسار الظَهر
فالأحلام ثقيلة يا صاحبي

5.
أيها الحلم العاقد تعويذته عند أقدام الرب
بسمت نبي تتبتل له المعجزات
أو ساحر ينفخُ في كمه
فتنْهد أجساد الحقول تحت وقع يديه
ويطير منها الفراش
تنحَ قليلا عن متاريس البهجةِ المغلقة
انزل من عليائِك بخفةِ ملاك حنون
صافح جثثَ الأطفالِ
وترقرق في دموع الأمهاتِ والعجزة
وابتسم للجياع
وتعلم فنونَ البكاء



على مشارف الربع الخالي

أخلعُ ظلّي كـ"عوانةٍ" طويلةٍ
تخافُ النظرَ للأسفل كي لا تنكسر
أتوسدُ الهواءَ وظلَ فكرةٍ عابرةٍ
أضاحكُ النجماتِ في آخر الليلِ وهنَّ يحزمن حقائبَهن الخفيفةَ لسفرٍ مؤقت
وأبتسمُ لغيمةٍ حبلى تمرُّ متهاديةً على مقربةٍ من رأسي الثقيلِ باللذةِ والأغنيات
وأعرفُ نهايةَ القصةِ سلفا
كأمٍ أزمُّ أغصاني كل شتاءٍ كي أمنحهَا الدفءَ
وأفردُها كلَ ربيعٍ كي تشرقُ بالفرحِ أو تحبلُ بالثمرِ
أراقبُ من علٍ العالمَ في عبورهِ اللاهث
وألحظُ تلك القيودَ المكبِلةَ للخطواتِ
وتلكَ العيونَ المنحشرةَ في الزوايا
يرعبني عواءُ الكلابِ الوحيدةِ بالليلِ
وأفرحُ لمرأى قطةٍ تلعقُ صغارَها عندَ الفجرِ
لا أعقد صداقةً إلا مع الأرضِ والزمنِ
فللأبديةِ خلخالٌ بأجراسٍ تشبه صوتَ أفعي
وللأشجار الأخرى ظلالٌ تداعبُها عند الظهيرةِ
ولي الهواءُ يردد أغنيتي الوحيدةَ كلما كان بمزاجٍ رائقٍ
ونظرةُ العابرين للأعلى
للتفكرِ في قدرةِ الرب، أو الثمرِ المستحيل

*العوانة نخلة طويلة جدا




حرفة


أكتب
للأطفال
للعشاق
للموتى
للجروح الغضة
والقلوب الغضبى
والأحلام النازفة
لوجه الحرية يغزله البياض
يغازله الكفن
للأمهات يداوين الجراح
للتجاعيد في الكفوف يفارقها الرفق
وفي الأرواح يغادرها العشق
وفي الكتابات يجانبها الحنين
للجوع، للفقر
والغُيّاب
أكتب
من جهة العزلة الخضراء
وأنا أصعد سلما يشبه النازلة
وأرتق ثقوب الرؤى بحرفي
وألملم فوضى التراتيل
وأغنيات السابلة

2.
أقدامي مشدودة للريح
ورأسي غيمة لا تمطر
جسدي قيثارة
مرحى لليل
الذي يمنحني حريةَ الكذب
وهو يتفتّح في جسدي
مرحى للغة التي تعقم جراحاتي بالألم
مرحى للحب الذي يشق صدري
 كلما حجبتهُ غمامةُ حزن

3.
أكتب كراقصة باليه عرجاء
تتخبط في الحركة، ولكنها لا تتنازل عن حلمها
كسلحفاة بحرية تعيش في حوض سمك
ينظر لها الصغار بغبطة
كعازفة بيانو عمياء
تتحسس المفاتيحَ بروحها المبصرة
كشحاذ على طريق مجهول
يدرك أنه لن يتحصل على المال
ولكنه يلتذ بالانتظار
كعامل نظافةٍ عجوز يرى في الشارع بيتَه
وفي كل عابرٍ ابنا سيحتضنه يوما
أكتب الحياةَ بزاوية النقص
وبدمعةٍ تترقرق في العيون
لأن الكمالَ وهم
والسعادةَ فكرة



فكرة

تأتي الفكرةُ آخر الليل
تعض على روحي
ساذجةً طيبة
كما يليق بفكرةٍ متشردةٍ
متشققةِِ الملابس مغبرةِ الوجه
تدخل من ثقب ما في رأسي؛ أذني، أنفي، أو عيني
وتتربع هناك تماما
تعوي في رأسي بعنف
كذئبٍ وحيد
تعبث بأشيائي العميقةِ هناك
تشذّب فكرة الشعر
تنتشل مفرداتٍ صارمةً كالأبديةِ والخرافةِ والموت
تلقي بها بعيدا وتضحك
يريبُها الحزنُ المتمتْرس خلفَ الفصِّ الأيمن من عقلي
تهزّه قليلا
ينظر إليها برجاء أن تتركَه في حاله
تلوك ما يحلو لها من مفرداتِ
شماعة الأزل
التيه
الصحراء والسراب
وتبتلع على عجلٍ أوهامَ الكلام المنمقِ والمحشورِ في زاوية الوهم
خزعبلاتٌ كثيرة تجدها تسربت من الكتب
تضعُ قدما على قدمٍ وهي تتأمل فكرةَ العدم
تنظر لروح "سيوران" و"كافكا" المتمترستين هناك
تنفضُ
 الغبارَ عن الكلام
وتؤمن بالتفاصيلِ الجزئية
ودورِ الراعيةِ الذي يشغلني وحفارِ القبور وخيالِ المآتة التي أركن إليها
تباركُها
وتختار لنفسها كلماتٍ جديدةً لتصلحَ هيأتَها في ضوئِها
وتخرجُ بصندوقٍ كبيرٍ كنعشٍ لحبيبٍ
أو جثةٍ لجريمةِ قتلٍ
تلقيها في البحر
وأسمع الطشطشةَ
وأنفضُ رأسي الذي يصبحُ خفيفا جدا





قصيدة مستحيلة

في دمي قصيدةٌ لن تكتب
قصيدةٌ سائلةٌ جدا
حارقةٌ أحيانا
وباردةٌ أحيانا أخرى
قصيدةٌ لها حموضةُ شجرةِ الليمون في سهلِنا الممتد
ومرارةُ قطعةِ (الشيكولا) حين ينتشي الحزنُ تحت جلدي
فيعبث داخلي بريشتهِ الباهرةِ كفنانٍ عظيمٍ
أو عازفٍ يأكله الشغفُ، فيشمخُ وجه الأوتارِ بارتعاشةٍ حرى
قصيدةٌ تشخب أبدا، كجرحٍ لا يبرأُ ولا يتخثر
قصيدةٌ أشدُ ملوحةً من بحر عمان (الحدري)
الذي يستضيف العشاقَ والعارفين على مقاهي صدرهِ الغافي كل مساءٍ
يتبادلون الضحكَ والنكاتِ السمجةَ والكثيرَ من القبلات والآهات
إنها لك أيها الطائرُ الجبلي الذي حطَّ في دمي أخيرا
أيها الطائرُ الغريبُ الذي وقفَ على غصنِ قلبي بين فصلين وجرحين وذاكرة
ثم استطابَ المكوث
فاردا أجنحتَه للريح والمسافةِ بيننا
واضعا حبةَ كرزٍ -تحمل تعويذةَ أجدادِنا السحرةِ - في فمي بمنقارهِ
فأغلقتُ عينيَّ لأتذوَّقها بلذةٍ
فلها طعمٌ مختلفٌ لا يوصف ولا يستبان
كنت أتلمظُها على مهلٍ، حين ذهبتَ أنت في الغناء
فأخذتني الغفوةُ والحب!





تحذير

أيتها الكلماتُ اليابسةُ كوريقاتِ الخريف
أقاربُك بحذرٍ
أخشى عليك أن تتكسري بين يدي
يدي الخشنةُ كيدِ حفارِ قبورٍ قديم
أو صانع فخارٍ عتيق
يدي التي تتحايلُ على الكلماتِ كي ترممَ شقوقَها في ضوءِ عينيها
وكي تتشكلَ أكثر جمالا في اللغةِ
يدي التي تسرّحُ شعرَ الأشعارِ في الكتب
كما تفعل النساءُ في المرايا
وتكتحلُ بالوهمِ كما يفعلُ العشاقُ غالبا
ثم تغني وحيدةً على ضفافِ المجهولِ
كما يفعل التائهون والعائدون من الحرب
يدي التي تنسجُ الحروفَ إلى بعضها بصبرٍ؛ كأم تخيطُ كنزاتِ الشتاءِ لأطفالِ السماء
يدي العامرةُ بالدعاء الذي يرتدُ في أصابِعها لتعيدَ كتابته في نص أرضي
يدي التي تعشقُ أن تحرثَ التراب
وتزرعَ الشجيرات الحامضة
وتروي الشتلاتِ الحزينةَ على الشرفةِ
أكثرَ من دغدغةِ المعنى كي ينجبكِ أكثرَ طراوةً ولينا
ولكن ما يحدثُ غير ما نريد غالبا
لذا تعالي بين يدي قليلا؛ لأصففَ شعركَ المبعثرَ في نصٍ قصيرٍ






صداقة

قصيدتي المترددةُ
صديقتي أيضا
نتحاور أنا وهي كلَ ليلةٍ
عن الحياةِ والحبِ وما بينهما
نختلف كثيرا؛ فأنا أعبرُ الحياة بتجاهلٍ مقصود
وهي تحتجزُ خطواتِها الظلية للزوايا
وتشمُّ ككلبِ حراسةٍ متمرس تفاصيلَ الشك والحيرةِ في القلوب
وتتتبّع الثقوبَ بدرايةِ نحاتٍ أكلت أصابعَه الغرغينيا
وببساطةِ حفارِ قبورٍ جاهل
وتلتقطُ الانكساراتِ بهدوءِ امرأةٍ دميمةٍ
تستيقظُ كلَ ليلةٍ في الواحدةِ صباحا؛ كي تدربَ الحظَ على لعبةِ الطيران
وتمشي خلفَ الخيباتِ على رؤوسِ أصابعِها لتأخذَ لها صورا قريبةً
تقضي وقتَها نائمة
وتجاهرُني برغبتِها في الرقص أو الغناء
في أكثرِ الأمكنةِ ازدحاما
نتبادلُ أنا وهي أدوارَنا في الحياةِ وفي الكتابةِ أحيانا
أرتدي جنونَها وترتدي قلبي
تبكي بالنيابةِ عني
حين أتحرَّج أن أفعلَ ذلك، أو حين لا تسعفُني الدموع
وأضحكُ بالنيابةِ عنها
لأن الضحكَ لا يليقُ بقصيدةٍ
تُقصي نهاراتي بحضورِها المتشنّجِ والمباغتِ
وتدخل للمساءاتِ برغبةِ عاشقةٍ في حبيبها البعيد
أسبقُها للنومِ، فتأتي بشقاوةِ طفلةٍ فتهمسُ في روحي سرَها الأعلى
وتدسُّ فضيحتَها في عروقي
تنام هي، وأظلُ أنا أهدهدُ الأرق



لأنه الشعر

الضجر ليس مبررا عميقا وجارحا
 لكتابة الشعر
 أنيابه النخرة لا تصلح للتمرئي في لجج الشعر العذبة
 وملابسه الرثة لا يصح أن نعلّقها على مشجب الشعر الأنيق
 والحزن أيضا ليس كافيا
 فله نظرة قاتمة تخيف الأطفال والمجانين
 أبناء الشعر الشرعيون
 والحب كذلك؛
 فتلك الطعنة الغائرة متوهجة أبدا، بحيث تقتل الكلام قبل أن يولد
 والفرح، والوحدة، غير كافيين
 فمن أين نأتي بالشعر ؟!
ربما مما يدور في ذهن عصفور في الأفق
 قبل أن يركنَ للشجرة
 وربما من عيون الموتى التي تبرق في الذاكرة
 أو من ضحكاتِ الأمهاتِ المرتبكةِ في الصباحات الباكرة
 وربما من حدس الربابنة بالعاصفة قبل الإقلاع
 أو من الهواء المولع بالعبث في جسد الوقت
 وشعر الحقول
 أو من الأقدام التي نسيت خطواتِها على أرصفةِ الفقد المتسخة
 أو من حزنِ مالكِ الحزين قبيل الغروب
 أو  من صرخة  مكتومةٍ في جوف كائن  لن يسمعها أحدٌ أبدا
 وربما ...
وربما ...
لكن الشعر المراوغَ غالبا
يأتي بخفةٍ متناهيةٍ، وغير مدركةٍ للأسباب والنتائج
 كالموت تماما!





حلم

يبدو أن أظافرَ البشرِ تستطيلُ كلما ذهبوا في العمرِ والتجربةِ
كيف سأقول ذلك لأمي؟
من أي سوقٍ مركزي سأشتري معالجاتٍ للجروح التي سيحدثها العمر
كيف سأتمكن من السهرِ مع الليل كل ليلة بصمتٍ كي لا أجرحَه
وكيف سأروّض النهاراتِ كي لا تجرحَني
كيف سأبث حديثا للمسافة كي لا تصيبَني بالدوار
وللحلم كي يظلَ عالقا بأهدابي؟
سأقول له مثلا أنا لا أكبر لا تخف
فهل سيصدّق كذبتي البيضاء؟
وكيف سأعبر النسيمَ المرافقَ بلا هالةٍ لائقةٍ
ودون أن أكونَ عالةً على الشعرِ؟
ماذا سأفعلُ حين ألمحُ أظفارَهم؟
هل سأختبئ في الحكاياتِ القديمة؟
أم سأتركُ لهم مقاعدَ الضوءِ كي يحتفلوا بغيابي
هل أمسدُ ظهورَ اللغاتِ كي لا تستفيقَ على حدِ لعنةٍ جاثمةٍ
أم سأبترُ أقدامي كي لا تسيرَ بينهم
هل سأقفلُ عائدةً من زقاقِ الدراويشِ
أحمل خبزَ "سيوران" فوق رأسي
وأسكن غرفةَ "فرجينا وولف" كبيتِ سلحفاةٍ عتيقةٍ من رأسِ الحدِ
وأتكئُ على حزنِ "لوركا" ونزقِ "نيتشه"
خفيفةً سأمرُّ، لن أضاحكَ "سلفيا بلاث" حتى نصل
ولن يسمع "كافكا" نشيجي قبل الفراق
وسأحتضنُ "فروغ فرخزاد" عند الزاويةِ بشدّة، ثم سألوّح للقصيدةِ في يدها
سلاما للصديقة والصديقة
وحين أعودُ سأخبئُ القصائدَ تحت وسادتي وأغيبُ
كي لا تمتدَ الأصابعُ والحناجرُ لمرآة قلبي
شبه

يشبهُني ذلك المغني الأعرج
الذي يقِفُ على قدمٍ واحدةٍ
كأوزّة مغناج
بينما يرفعُ الأخرى على الرصيف
ليبدو أكثر اتزانا في اللحن
وهو يبثُهُ باتساعِ الهواءِ
ليسري في مفترقِ الدروبِ
وفي مفارقِ النساء
وفي ضحكةِ العاشقيْن القريبين، وهما لا ينظران له كما ينبغي
وفي لثغةِ الطفلةِ المنغوليةِ التي تشاكسهُ كل صباحٍ
وقد تعضُّ بعض نقودِه القليلة، وتغسلُها بلعابِها
فيضحكُ لها، وهي تضعُ خبزتَها للحمامِ المتجمعِ حولهما




السيدة العمياء

تركت وجهُها عند النافذة ِ
كانت ترغبُ أن يتعلمَ كيف يتنفسَ بحريةٍ
ويشربَ القليلَ من الشمس
لتتشكلَ ملامحُه السمراء
وتستديرَ لهفتُه
ويتعلمَ الصراخَ البكرَ
لكنه بالغَ في الوقوفِ هناك
هامَ في المطلقِ
وأخذهُ التوقُ للبعيدِ
أراد أن يرسمَ بالوناتٍ يطير فيها أطفالُ الدنيا
ويرسلُ قبلةً في الهواءِ
للفقراءِ والجوعى والشحاذين
ويخبرُ العالمَ عن معنى المحبةِ
ويمحو الظلمَ من الوجودِ بنفخةٍ قويةٍ
ودون أن يشعرَ أكلت العصافيرُ جزءًا منه
وحملتْ الريحُ بعضَ أجزائِه
وبعضُ الأجزاءِ حرقتها المدفئةُ لتدفئ أطفالَ البردِ
أصبح ناحلا وهشا
فتكفلتْ الكونيةُ بما تبقى
حيث مصمصَ الأغنياءُ عظامَه
وسرقَ اللصوصُ بعض جلدِه
باعوها للرجالِ فجعلوها براقعَ لنسائِهم
وباسمِها بيعت النساءُ في أسواقِ النخاسةِ
الآن أصبحتْ تشتاقُ المرايا والكحلَ
و تبكي بلا دموع
حبيبها كان خارجَ الزمانِ
حين عاد لم يعرفْها
ومن يومِها وهما يتبادلان التحيةَ كالغرباء!




فوضى

لا شيءَ هنا
لا شيءَ هناك
وبينهما اللا شيء
لا أحدَ هنا
لا أحدَ هناك
وبينهما اللا أحد
الفراغ يأكل قلبَ العالمِ المتوحِّد
كما تأكل الحلكةُ مقلةَ عجوزٍ ضريرٍ
والوحشةُ تنهش أنسَ المسافاتِ
كما ينهشُ الوجعُ حناناتِ صدرٍ يتمشى فيه مرضٌ خبيثٌ
والواقفون على قبةِ العدمِ يحتسون نخبَه
والألم يضعُ علبةَ "مكياجٍ" في الجيبِ الأقربِ للقلب،
 كي يتبرّج قليلا بين الفينة والأخرى
ويحمل بضعَ أقنعةٍ كي لا يصاب بالمللِ من وجههِ القبيحِ، ويمشي بخفةِ (دنجوانٍ) عجوزٍ
الأشياءُ العتيقةُ تمارسُ ألعابَ الخفةِ في مرايا الدمِ
والحاضرُ مترددٌ في المثولِ
والغدُ يرتدي "طاقية الإخفاء"
الأطفالُ يولدون بعكازاتٍ، ومصاصاتِ دماءٍ
والأمهاتُ امتثلنَ لشروطِ الفجيعةِ
ورهاناتِ الفقدِ
والعشاقُ استبدلوا وجهَ القمرِ بالرغيف في مجازاتِهم
فأصبحوا شعراء بلاطاتِ الأرصفةِ
وباعةُ القصاصاتِ أيقنوا لعبةَ الانكفاءِ
والذاهبون إلى حتفِهم ما زالوا يسيرون بهمةٍ عاليةٍ


تقاسيم

1.    عودة

أعادني الشعرُ إليه
كنت قد توددتُ إليه كثيرا
غيرت لونَ عينيّ
وطولَ كعبِ حذائي
غيرتُ رعشةَ العطرِ
وغسلتُ ذاكرةَ الصداعِ المستطيل
لويتُ عنقَ المصابيحِ كي تزهرَ
قمرا راعفا بالضوء
ولوّنت الأغاني بمبهِجاتٍ جديدةٍ
بالحزنِ والرقصِ ورشرشاتِ الغناء
أزهقتُ حمى الفصولِ
وكآبةِ العابرين
وانتخبتُ حبيبا خرافيا لحرفي
وياسمينةً لخصلةِ شعري المشاكسة
لكنه في كلِ مرّة كان يبادرني
بابتساماتٍِ شبه معطّلة
وبطاقةٍ حمراءَ ووردةٍ
ويظلُّ بعيدا
وحين لوّحتُ له بلا عتبٍ
واستقرّت في عيني قناعةُ المشتاقِ
ولوعةُ عاشقةٍ لا تجيدُ البكاءَ
عادَ إليَّ
لم يعتذرْ
فقط أسند رأسا لقلبي ونام
2.    طفولة

هناك عند ذلك العمرِ القديم
كنا نشرقُ بالفرحِ كعصافيرَ تشقُ برقعَ الريحِ
بمناقيرِها العذبةِ
وترفرفُ بلا أجنحةٍ
هناك حيثُ يتربعُ الجهلُ
كانت الأقاصي تتجمعُ في بؤرةِ القلبِ
وترقصُ الأرواحُ عند انثناءَةِ غصنٍ ليّنٍ
وعند تلكَ الضحكةِ التي نتعمدُ
نسيانَها عند ناصيةٍ ما
فتزهر كياسمينةٍ بحريةٍ
كنا نصلبُ أحلامنَا فيأكلُ منها الطيرُ
فنلوّح لها ولا نبتئس!

3.صورة عتيقة

أيها العالمُ استدر
انظر لي
أنا هنا من قديمِ الزمان
يدي مدٌ من البحرِ
ورأسي سامقٌ كالنخلِ تعصبهُ السماءُ
لي قلبٌ
يناغي الشمسَ حين تنام
وذاكرةٌ تتورد عند المرافئ
ها أنا
أشهرُ صوتي إليك
وأرقِصُ سيفي في الهواء
وأنشِدُ للبحرِ كيما يزبدُ عندَ الظهيرةِ
وفي المساءِ أنتخبُ لي غانيةً من حواريهِ
لألقي عليها ما تيسرَ من العشقِ والشعرِ
وأحلمُ
وقد تزغردُ بندقيةٌ حالمةٌ بين أصابعي
وهي تشهقُ للولاداتِ الجديدةِ للرملِ
للفرحِ المعانقِ ظلَ الهواءِ
للحريةِ الخضراءَ
أيها الدهرُ استدر
أنا البدويُّ الأخيرُ
بي شهوةٌ للغناءِ
فعمّدني بمائِك أيها الكونُ الفسيحُ
واسترني بضوئِكَ عند اقترابِ القبرِ
وعند جنونِ الظلامِ
فأنا ما زلتُ هنا
أفاوضُ الغيابِ ببيتِ شعرٍ معتّقٍ
أو حكايةٍ عن «مغايبةِ» الجبالِ
وأضحكُ ملءَ الجنونِ
وأبكي ملءَ السواقي بدمعٍ حنونٍ

4. ثورة

كلُ شيءٍ استدارَ كعقربِ الوقتِ
كصاريةٍ لا تملكُ الانحناءَ
الهوامشٌ تصدرتْ المشهدَ
الدهشةُ فقدتْ عدساتِها المكبَّرةِ
وركنتْ للظلِ وللأشياءِ الصغيرةِ
لم تعدْ الزواحفُ تستجدي الأرصفةَ
نبتتْ لها في غفلةِ الوقتِ أجنحةٌ
والديناصوراتُ صارت أصغرَ من زوايا الصورةِ
سجدتْ الأصنامُ لأصابعَ النحاتِ
والتصقتْ القصيدةُ بالشارعِ
وطارتْ الأقنعةُ
فتطايرتْ الضحكاتُ

5. صرخة

حين يتمرأى الضدُ في الضدِ
ويغالبُ الصدأُ حشاشةَ الأشياءِ
وتتكسّرُ الأحلامُ كورقةٍ عافها الماءُ ذاتَ ظمأٍ
وحين تتساقطُ الأشياءُ الرفيعةُ في بؤرةِ العدمِ
ويصبحُ الحدسُ ذاكرةَ العرافِ اللئيمِ
وتتحشرجُ الضحكاتُ على حدِ الفراغِ
وحين تذبلُ الأغنياتُ في حدائقِ السكونِ
ويتآكلُ الكلامُ كجسدٍ طريٍ يأكلهُ الجذامُ
وتغصُّ بالغصةِ حناجرُ الصمتِ
وحين ترقصُ الآهاتُ المذبوحةُ في قعرِ الروحِ
كأبطالِ الجنِ في الحكاياتِ العتيقةِ
بلا رؤوسٍ!
وتشربُ العيونُ التي تنزُّ دموعَها في بلاهةٍ وخدرٍ
نخبُ دمعَها دما !
يكونُ لابدَ من صرخةٍ !
حتى لو كانت صرخةً في ماء !


6.غياب
كطفلةٍ خائفةٍ
تقفُ خلفَ ظهرِ الغيابِ
تتشبثُ بعباءتِه الحانيةِ
كي لا يراها أحدٌ
تختبئُ
من ظلِها المنكسرِ
ومن خطوِها المحفوفِ بهالاتِ القلقِ
ومن صوتِها المرتعشِ كنايٍ يتيمٍ يبكي
ما تواترَ من حكاياتِ القصبِ
تهربُ من رائحةِ الياسمين في الذاكرةِ
ومن الحزنِ المعشوشبِ في صدرِها كالدخانِ
ومن الوجعِ المتحشرجِ في الحنجرةِ
كزغرودةِ أم الشهيدِ
تسوى بيدين يرجِفهما الوهنُ
حنينَ الرملِ للماءِ ولأغنياتِ المساءِ البعيدِ
وللحكاياتِ القديمةِ
ولنشيجِ الحارةِ الحسناءِ
وللبحرِ الذي ما فتئَ يراودُ صمتَها
عن هفهفةِ النسيمِ، ولثغةِ الأشرعةِ
وعن نخلةٍ في الضلعِ الأقربِ للخاصرةِ
وعن ضحكةٍ بكرٍ، ودمعةٍ كاذبةٍ
ثم تنفثُ على عجلٍ ما استطالَ
في غفلةِ القلبِ من رعافِ السنين
ومن صداعِ المطاراتِ والأوردةِ
وتشرعُ نوافذَها للعزلةِ الطيبةِ
تغرَق في صدرِها
وتذوبُ عند المسافةِ التي تفصلُ
الروحَ عن الرائحةِ
تذرفُ آخرَ ما ينبغي أن يقالَ
وهي تمضغُ الصمتَ على مهلٍ..
ثم تبدأُ في سردِ الحكايةِ!




انتشاء

حين ينزلُ المطرُ أبتهجُ كشجرةِ سمرٍ وحيدةٍ
نهضتْ ذاتَ صباحٍ لتجدَ جسدَها فارعا على قارعةِ على طريقٍ بعيدٍ
لا يرتادُه الكثيرون، لكنه ليسِ معزولا تماما
شجرةٌ شيطانيةٌ المولدِ لم يستنبتْها أحدٌ
ولا يعتني بها أحدٌ غيرٌ السماءِ
تقصقصُ الريحُ فروعَها متى ما استطالتْ
ويعمدُّها الغبارُ ببعض البهاءِ
وتغسلُها الشمسُ بالضوءِ كل صباحٍ
ويدغدغها المساءُ لتضحكَ كعاشقةٍ حسناءَ قبيلَ الغروبِ
عنيدةٌ شقيةٌ؛ تمد جذورَها في سويداءِ الأرضِ حتى الشغافِ
وتربّي الحنينَ كل فصولِ السنةِ
ولها ذاكرةُ الأرضِ كل ارتواءٍ
لا يرهِقُها كثيرا سوى ظلِها الثرثارِ في النهارِ
وهو يستطيلُ ويقصرُ ويغيرُ جهاتِه كل حينٍ بلا مبرراتٍ وجيهةٍ
سوى شغفهِ بالشمسِ اللعوبِ
ويتركُها وحيدةً في الليلِ فريسةً للخوفِ من فكرةِ الفأسِ، والحطابِ، والكوابيسِ المشابهةِ؛ كالبلديةِ،
وتجميلِ المدينةِ، وتنظيمِ الشوارعِ، وما شابهها
ولكنها في النهارِ تبتسمُ لقدرِها حين يجلسُ تحتَها عمالُ الشوارعِ والبناءِ
وتشمُّ روائحَ طعامِهم الحارقةِ وهم يفترشون ظلَها القصيرَ
وحين تأتي المرأةُ البدينةُ التي تنتزعُ بعنفٍ بعضَ وريقاتِها للتداوي
ولتعويذةِ العرافِ القصيرِ بلحيتهِ الطويلةِ
تضحكُ ملأ قلبِها
وحين يقرأُ عليها شيخٌ المدينةِ السلامَ جيئةً وذهابًا وهي تنظرُ لمن حولِها
فتقهقهُ لظنِّه بأنها مسكونةٌ بالجنِ
وما غيرُ العصافيرِ يسكنُ قلبَها الأخرس
العصافيرُ التي ترتعشُ كلما تمخضتْ غيمةٌ فوق جسدِها تماما
فتغتسلُ بودٍ حميمٍ
تخافُ قليلا حين يزمجرُ الرعدُ وتشعلُ البروقُ نواجذَ السماءِ الخفيةِ
وتلتفُّ على ظلِها وتبدأُ في الصلاةِ
تتذكرُ الوديانَ واقتلاعاتِها المجتثّةِ للجذورِ
تبسملُ وترقي الكونَ من حولِها
ثم تعاودُ الابتسامَ والتلذذَ بفعلِ الحبِ العظيمِ
وتغنّي بانتشاءٍ لدمعِ السماءِ الحميمِ
وتسِرُّ للحفرِ التي تحتِها؛ لا تبتلعنَّ الماءَ بسرعةٍ
ليتغلغلَ في أرواحِكن الظمأى
إنه الحب ياصديقات؛ فافرحنّ لعنفوانِه الرطيبِ
رويدا رويدا دعنه يتسربُ في شرايينِ الأرضِ وأوردتِها
لنشربَ منها لاحقا
ابتهجنَ به .. ولنرفع أصواتَنا بالغناءِ
 "الله يزيد، ويرحم عبيد"




خيارات وجودية

لو قررتْ السماءُ أن تنتخبَني شجرةً
فسأطلبُ أن أكونَ سمرةً
السمرةُ طيبةٌ وغير متطلبةٍ
يستفيدُ منها العابرون
وقطاعُ الطرقِ
في الليلِ تنثرُ رائحةً عطرةٍ على الكونِ
تغني وحيدةً آخرَ الليلِ حين يبللُها الندى 
وربما سأكون سدرةً
ستسفيدُ مني النساءُ
سيغتسلن بي
وقد يتسلقُ جسدي طفلٌ شقيٌ
 ويدغدغ أوردةَ جذعي الجاف، قبل أن يقطفَ ثميراتي الصغيرات
الآن يصنعون مني العطرَ والزيتَ والدواءَ أيضا
ذاتَ مسغبةٍ قد يأكلُ العابرون أوراقي بشهيةٍ
وهم يتخيلون رائحةَ عشيقاتِهم
وقد أكونُ غافةً حكيمةً
تستقبلُ المطرَ بين أغصانِها وتشاطرُ اليمامَ البكاءَ
تظللُ الكونَ
المهم في الموضوعِ أنني لن أكونَ زهرةً بيضاءَ أو حمراءَ أو صفراءَ
تقفُ بدلالٍ كغانيةٍ حمقاءَ في منتصفِ الطريقِ لا تأبهُ للحياةِ
وفي لحظةٍ ما سيقتطفُها عاشقٌ كاذبٌ ويقدمُها لصديقتهِ التافهةِ
وقد تقتلُ على عجلٍ، وتوضعُ كجثةٍ فوقَ قبرٍ قديمٍ
وقد تزيِنُ المداخلَ في المناسباتِ الكاذبةِ التي تعجُّ بالنفاقِ والمللِ
وقد توضعُ عند رأسِ مريضٍ، لا يرى فيها أكثرَ من طريقٍ أنيقةٍ للمقبرةِ
لا لا شكرا هذه الأدوارُ لا تناسبُني أيتها السماءُ!
أشعة مقطعية الريح
1.
عاصفةٌ هوجاءُ، ناشزٌ كامرأةٍ مبللةٍ بالخطيئةِ
يأكلُها الحقدُ
تمررُ أصابعَها بحنانٍ على وجهِ الكونِ الأرعن
ثم تعوي في أذنهِ بغضبٍ
تنفرجُ أساريرُه غبطةً
وهو يستشعرُ بضعَ لذةٍ، وبعضَ جنونٍ
قهقهةٌ راعشةٌ تتناثرُ على الأرصفةِ
تتخبطُ بين الأقدامِ المتسارعةِ
تتقلصُ الشجيراتُ على أنفسهن كنساءٍ
في لحظاتِ مخاضٍ
تقتلعُ - بغيرةٍ زوجةٍ وحيدةٍ في ليلِ الشوقِ - عينَ الزهرةِ الوحيدةِ الواقفةِ عند مفترقِ الوادي
ويتساقطُ شعرُ الليلِ على وجههِ
رجفةٌ تسري في أوصالِ الماء
تصكُّ الشبابيكُ أسنانَها
تحلّقُ المظلاتُ الملونةُ لتحققَ حلمَها القديمَ
المعاطفُ والأغطيةُ تلعبُ معا لعبةَ الغميضةِ
فيسرقُها التيهُ عند منتصفِ الوعدِ
الأمهاتُ يلمسنَ أثداءهنَ
ثمةَ ماءٌ ينزُّ
والرجالُ يتجمدونَ بين الدمعةِ والخوفِ
بينما يتعالى صوتُ المجنونِ الداعرِ
يلعنُ السماواتِ والأرضِ
ثم يسمعُ في مكانٍ ما ينوحُ معلقاً من حبلهِ السريِّ في عينِ العاصفةِ
المقاهي تقدمُ تفاصيلَها المجانيةَ للعابرين المغادرين على عجلٍ
كتذكاراتٍ رديئةٍ لعاشقةِ خائنةِ
وحدُها المرايا كانت تبتسمُ
وهي تتمرأى في أغنيةٍ جافةٍ وتستحضرُ المطر َ!
2.
العاصفةُ المراهقةُ اللعوب
ماتزال تبدِّل أثوابَها الصيفية من رائحةِ جلودِنا
وتشعلُ حرائقَها اللاهبةَ في دمائِنا
ترقص رقصتَها الصوفيةَ عبر ممراتِها اللولبيةِ الخفيّةِ
تدور .. وتدور ..وتدور حتى تسقط
تعبثُ بنا كطفلةٍ شقيةٍ
تومئُ للمكانِ بالفرح
تغمزُ للشجرِ الذي يشرّع جسدَه بلذةٍ للهواءِ
وهي تخيّب آمالَه العريضةَ
وتنثرُ الغبارَ فوق شعرِها بجنون
فيتطايرُ في دروبِ الكونِ
العاصفةُ التي تتآمر مع بضعِ غيماتٍ عقيماتٍ على حجبِ وجهِ الشمس
لتوهمَنا بالهواءِ الباردِ
ثم تثير زوابعَ القلقِ الساخنِة بمرحٍ ساذجٍ
وتتلو صلواتِها المعربدةَ على أجسادِنا المرضوضةِ بالحرِ والوهنِ
كقربانٍ للشرِ
فنشعرُ بدهشةِ الضريرِ أمام الصباحاتِ الطازجةِ برائحةِ الخبزِ والقهوةِ
ونتسمرُ خلفَ الزجاجِ في محنةِ الهواءِ الاصطناعي
ونبتسمُ بحسرةٍ لجنونِها المثير، ونحن ننظرُ لأفنانِ الكونِ المتراقصةِ
وندرك سرَ الخديعةِ الكبرى
وشظف الروحِ أمام الغضبِ اللامرئي للطبيعةِ
لولا شغفُ الماء
3.
العاصفة التي ترغي وتزبدُ في الخارجِ
وتقبض على قلبي بأظافرِ الخوفِ
وتمنعني من السقوطِ في بئرِ النومِ على أم رأسي
كما أشتهي؛ لأحظى بغيبوبة طويلة
أشعر أنها امرأةٌ غاضبةٌ
سرق أحدُهم قوتَ صغارِها
أو رائحةَ زوجِها الميّت
أو كعبَ حذائِها التي تنتعله في رقصةِ الشغف
حين يسري اليأسُ في وريدِها المسدودِ بالدخان والحلكة
أو دفترَ يومياتِها في زمنِ المراهقةِ الذي توقفتْ عنده عن الحب
أو لعل أحدُهم داسَ على عشبِها المخضر أبدا في الذاكرةِ
و الذي تسقيه بدمعِها كلما أورقَ الليلُ على أهدابِها الذابلةِ
4.
ماتزال العاصفةُ/ المرأةُ تزأرُ في الخارجِ
تتخبطُ بعنفٍ في كل مفرداتِ الكونِ
وتتحركُ بهستيريةٍ في كلِ مداراتهِ
ترتطمُ بقوةِ جسدِها المخدَّرِ بالجدرانِ والأشجارِ وقلوبِ المارة
لكنها هذه المرة أكثرُ وجعا ومرارة
أو لعلها أكثرُ انكسارا
فثمةَ دموعٌ مكتومةٍ على مسافةٍ من الصراخِ
وثمة حشرجةٌ مرة تخالطُ كلَ ذلك السخط
إنها تلكَ الحالة من الانهيار والوهن التي تعقب الغضب
وتجعلنا نركع أمامَ ضعفنا الهش في مقابلِ جبروتِ العالم
العاصفة/المرأة هذه المرة تحدث صريرا مرا، وتكزُّ على أسنانِها وهي تعصفُ بكل شيء
وثمة نحيبٌ يقطر في خلفيةِ المشهد
لامرأةٍ مخذولةٍ تنفجرُ في روحِها تراكماتٌ كثيرة
فتكسّرُ أطباقَها التي اشترتها بعناية
وتمزّق أثوابَها التي تحبُ، والتي شهدت فيها لحظاتِ عشقٍ متوهجةٍ
العاصفة/المرأة هذه المرة حزينةٌ جدا
تستحقُ أن يحتضِنَها قلبُ العالمِ
ويقول لها :(اهدئي ؛ كل هذا سيمضي! )
قهوة الحب

بللٌ على بعدِ رشفةٍ أبعدُ من شفتين وذاكرة
يصيبُ الروح فجأة
كمطرِ نيسانِ الحنون
كارتحالات غريبٍ في وطنه
كنجمةٍ بعيدةٍ في سماء قريبة
تسقطُ في قلبِ البحرِ تماما
كخطوتين تتركان على الرمل
ما تبقى من الكلامِ والليلِ
كشهقةٍ مكتومةٍ في صدرِ أغنيةٍ وحيدة
وآهة مرتبكةٍ تجوبُ الصدرَ رعبا
من خذلانٍ جديدٍ


موسيقا

يرهف الليلُ روحَه للموسيقا
فيشتعل
ويهَبُ كائناتِه حنينا إضافيا
وأجنحةً لا مرئية
تخرجُ القلوبُ من أقفاصِها
تسيرُ بمحاذاةِ أغنيةٍ راعفةٍ بالشوق
تبتسمُ العَتمةُ في وحشتِها الضارية
ويرتّب الليلُ أحلامَه على ضوءِ شمعةٍ
وعلى صوتِ فريد
يخلعُ الحيارى أرديةَ القلقِ
وينتظمُ العارفونُ والدراويش في حلقاتٍ
يدورون في دوائرِ اللهفةِ المغلقةِ
وتدنو السماوات رويدا رويدا
تأخذ بيدِ الأرضِ
ويرتفع كلُ شيءٍ للأعلى




21 مارس

يحضر الربيعُ في الكون فجأةً
كطفل يلعب مع أمه لعبةَ "الغميضة"
يخرج لها من وردةٍ على طاولة المطبخ
ومن قوسِ قزح في كراسة الرسم
من أصابعِ البيانو الذي ينام على صدره الغبارُ بهدوء
ومن رائحة ياسمينةٍ مجنونة تتسلق حائطَ الحديقة الخلفي بلا حذر
ومن أصيص قديم نبتت به وردةً زرقاءَ بلا هوية ذات مطر
ومن لوحةِ فان جوخ المعلّقة على الحائط
ومن أغنية "المزهرية" لعبادي الجوهر
ومن صوتِها المرتبك بالفرح في عيد الأم
ومن وردةٍ بيضاءَ وضعتها عاشقةٌ خلف خصلات شعرِها الفاحم في احتفالات النيروز
وأخرى حمراء موضوعةٌ بخبثٍ في ياقة قميص مفتوح على الاحتمالات لمسافرٍ وحيد
ومن شارعٍ يمشي بين قلبين مرتبكين بالشوق واللهفة
ومن قصيدةٍ تائهة في يوم الشعر لا تريد أن تهتدي
يحضر الربيعُ فجأة
كحقل زهورٍ وقوس قزح يخرجان من قبعةِ ساحرٍ
يمارسُ هوايتَه في الخفّة مع عشيقتِه ليخفف كآبتها المزمنة
فيضحكان بقوة مع أنهما يدركان جيدا أن كل ذلك سيتبدد سريعا
يأتي الربيع في هذا اليوم كأحجية عصيّة في مدنِ الملح




نسوة الكلام

نحن الشاعرات المولودات بأصابعَ طويلةٍ
وأرجلٍ قصيرةٍ لا تساعد كثيرا على المشي
لا نحاولُ كثيرا الاعتناء بمظهرنا
نرتدي حضورنّا المباغتَ في القصيدةِ على عجل
نتعطر دائما بالخزامى والياسمين
كي تكونَ القصيدةُ عطرةً حين يلامسها الحب
لا ننظرُ كثيرا في المرآة
كي لا تفضحَ شوق رجلِنا المختبئِ بين شقوق الكلام
الرجل الذي لا يشبهُ الرجال في التفاصيلِ الصغيرة
الرجل الذي لا نختاره غالبا
فهو ينزلُ مع المطرِ كما علمتنا الأمهات
ونحن نصدقُ الأطفالَ والأمهاتِ فقط
*
نحن الشاعراتُ المرتبكات أمام تراتبية الأشياء حولِنا
لا يهمُنا كثيرا ترتيب الأواني في المطبخ
لا تهمنا ألوانُ الأثاث في الصالة
فقط تهمنا الحديقةُ الخلفيةُ للمنزلِ والحياة
هناك حيث نتنزهُ بعري أرواحِنا الموجعِ
وصريرِ أحلامِنا المزعج وأرقنا الدائم
هناك نبني خياما لهياكِلنا النحيلةِ لنحميها من الألم
ونعمّد أصابعَنا الطويلةَ بالضوءِ والحبِ كلَ يومٍ
ونغني للرجل الذي يسكن تحت إهاب الكلماتِ بلا حذر
"تعا، ولا تجي واكذب علي ،، الكذبة مش خطية"
*
نحن الشاعراتُ المترنحاتُ في المدى
ننام على ركبةِ وردةٍ عقيمةٍ
أو زهرةِ عباد الشمس غدرَها الضوء ذات غروبٍ
فانحنت للغياب
أو قرنفلةٍ خدّرها اليأسُ عن التطاولِ في البياضِ والحسن
ونتشفّع في ذاكرةِ الترابِ والندي
وحمى الليلِ لمن عبر هذا الوجود بظهره
ليصدَّ النصال عن قلبٍ مرهقٍ وأغنيةٍ يتيمة
نتحدُ مع الجوعِ والبردِ
ونكتبُ على عنقِ الأمل قصيدةً عاشقةً
كي يخرج للناس فاردا جناحيهِ كرخٍ عتيقٍ
يوزّع الحلمَ
ويرتجلَ الأمنيات
*
نحن الشاعراتُ المالحاتُ كالفستقِ
لا نستوردُ ملابسَنا ودبابيسِ شعرِنا
نحن نصنعُ كل شيءٍ من لهفتِنا الصباحيةِ
وقلقِنا المسائي
كلُ شيءٍ نخيطهُ بالتفاصيلِ عبر الوقتِ
نرتقُ ثقوبَ أحلامِنا بإبر الولهِ
ونغني للحظِ كي ينامَ قليلا بين أحضانِنا
كطفلٍ متوحدٍ
وقد يفعلُ طويلا لأنه يستلذُ عبثنا بشعره
قبل أن ينتبه
ونبتسم له لأننا سرقنا -الكثير من الحب- غايتَنا القليلة
في غفلته حتى حين




صديق الميلاد والعدم

إلى إميل سيوران، في ذكرى 8 إبريل.. سيرورة الوجود والعدم

في يومِنا هذا الذي اغتسلنا فيه بالدمع والليالي البيضاء معا
طويلا ..كثيرا
متباعديْن في الزمن
متلازمين في فكرة السهادِ والغرق
جئنا
كتبتْنا مسوداتِ العدم على كف الليل منمناتٍ ونقوشا عمياء
لن يقرأها أحد
وضعتْ أرواحَنا تحت مقصلة الشك
وفي مشانق الموتى
جعلتْنا بلا رحمة بين فكي الرحى
طحنتْنا وهي تغني لنا أغنياتِ الطفولة والذكريات
طوّحتنا في متاهات الضياع
فضعْنا
وما استطابت قلوبُنا ثمراتِ الركون
تشظينا كأرض رطبةٍ داهمها زلزالٌ عنيفٌ ذات ارتواء
عمدتْنا بالشك
وأرهقتْنا بالغيابات والقلق
وفقط كنا نرغب في الصلاة
في القليلِ من الخوف
أو البكاءِ
وما أمهلتْنا
حرّقتْنا في براكينِها الجافةِ
فصرنا أكثر رعونةٍ من المستحيلِ
حملتْنا ثأرَ أبنائِها المجانين والمخبولين والحيارى
صلبتْنا على بعدِ دمعةٍ ونزقٍ مما كتبْنا
فاستوينا على جروحِنا كالعائدين من الحرب
بلا حسابٍ للخساراتِ والفقدِ
مضيْنا
جففنا لعناتِنا كالتين
وأشعلْنا لغاتِنا كالنبيين
قرأنا كممسوسين هذياناتِ الفلاسفةِ
وترَّهات الشعراء
وحنينَ التاريخِ للوجود
وتشظيات الأرواحِ في العدم
وتصاعدَ فينا لهاثُ الموسيقا
تبعثرْنا
مزقتْنا مرادفات اليقين
تراشقْنا بالوهم
وتوزعْنا في الصدى
اغتربْنا
أكل الحنين أطرافنا كالغرغرينيا
وتسلقتْ الغربةُ أجسادَنا الوهنةَ كنباتٍ طفيليٍّ حميم
وانكسرْنا مع الأنيميا والألم
فكتبْنا ما تفصَّد من أرواحِنا من عناء
حملتَ أنت عني إثمَ الكلام
وحملتُ عنك طعنةَ الماء
حتى تنازعتْ "المياه" قلبي
بحر تتكسرُ فيه قواربي الورقيةُ
وتصفو روحي في مشاربهِ العذبةِ
لأهذي كمحمومةٍ بالفرح
وأتدافعَ على متعرجاتِ الكلامِ
كثيرا. . كثيرا
طويلا. . طويلا
في يومِنا الذي اغتسلْنا فيه بالدمعِ والليالي البيضاء معًا
طويلا ،،كثيرا
متباعديْن في الزمنِ
متلازمين في فكرةِ السهاد والغرق
"كل عام ونحن بخير وعدم"


عبثية اللاجدوى

ماذا نفعلُ؟
نكتبُ
نخيطُ العدمَ، ونرتقُ ثقبَ المستحيلِ الكبيرِ
نداري سوءةَ الحظِ ونكتمُ أنينَ الدموعِ
ماذا نفعلُ؟
نغني لشهوةِ الحكاياتِ النيئةِ، نباركُ قياماتِ المقابرِ في الصفحاتِ
نحنّطُ التفاصيلَ في لججِ الفراغِ
ونصطنعُ الخطواتِ المباركةِ للشللِ النبيلِ
ماذا نفعلُ؟
نمشي على قفا خطواتِ الموتى،
على جمرِ النهاياتِ والنكاياتِ والعبثِ
وننتعلُ حرقةَ الصحاري القائظةِ
نشْتمُّ على بعدٍ رحيقَ الجراحِ، نعتِّقُها في جرارِ اللغاتِ
أو نخبِئُها في مزاراتِ أرواحِنا الميتةِ
نتعففُ عن الحياةِ بجملةٍ من سرابِ النحيبِ
ونلهثُ، ونلهثُ خلفَ طقوسِ العواءِ
ماذا نفعل؟
نغني للخيباتِ قليلا كيما تنامُ
ونسندُ انكساراتِ الشجرِ الميِّت في أعماقِنا بنصُبِ الكلامِ
وببعضِ الشجن
ندجج حرفةَ الشوقِ في شقوقِ الأصابعِ
وننتظرُ الماءَ خفيفا مريضَا في مقلِ العيونِ
ماذا نفعل؟
نتهافتُ مع المتهافتين على لذةِ الفقدِ
ونتشربُ عنفوانَ الرواءِ من قصعةِ الليلِ
ثم نشرئِبُ في ابتهاجِ الغيابِ
ننسجُ حنينا في المدى الذي لا يطال
ونهرفُ بما لانعرفُ على صدورِ الهوامشِ والحواشي
نرددُ خلفَ جوقةِ المجهولِ أناشيدَ الفتنةِ الغاربةِ
ونكبَّلُ أصابعَنا بخواتمِ اللعنةِ في ردهاتِ الشاشاتِ والصفحاتِ والغي
ونكتبُ نكتبُ
عما ليس هنا، وعما لا يجيء
نخبئُ أفراحَنا في صرةٍ ونحكِمُ الربطَ
ونصطنعُ دهشةً كاذبةً، وضحكةً عابسةً، ونمضي بخفةٍ مع الركبِ
نغنَي للقافلةِ كي تكمِلَ رحلتَها في السراب
ونستأنسُ بنحيبِ الكلاب
ونكتبُ .. نكتبُ
لننشرَ كلَ عام كتابًا




رقصة القصيدة في يوم الشعر
سأفرُّ كحمامةٍ من شرك المعنى
وسأراقصُ الكلماتِ كطفلةٍ تنتعلُ حذاءَ أمِها
كي يرفعَها الشوقُ للأعلى قليلا
سأقرأُ شعرا كثيرا لـ "لوركا"، و"السياب"، و"أدغار ألن بو"، و"المتنبي"
ولكلِ الشاعراتِ: المراهقات، والمجيدات، والجارحات، والعابرات بخفةِ فراشةٍ
سأقرأُ لـ" الخنساء"، و"ولادة"، و"فدوى طوقان"
وكثيرا جدا سأقرأ لـ"نازكِ الملائكةِ"، و"فروغ فرخزاد"
وسأقفزُ في قلبِ عزلة "إيميلي ديكنسون" لأكسر شرنقتي فيها
وسأعانق "سلفيا بلاث" عناقَ أختٍ بعيدةٍ أو على سفر
ثم سأمشي بمحاذاةِ قصيدةٍ غجريّةٍ لشاعرٍ مغمورٍ
سأتوّحدُ معها
وأهرّبُ لها العشقَ من عيونِ النساءِ المحزوناتِ، والرجالِ الخائنين والخائبين في الحب
ولاحقا سأجلسُ على مصطبةِ التاريخِ
سأنتحبُ كثيرا باسم كلِ الأمهاتِ اللائي رحلن على عجل، والأبناءِ الذين لم يأتوا
والشعراءِ الموتى
والقصائدَ التي لم تكتب
ثم سأضحكُ لكل الشعراءِ الخارجينَ على فتنةِ القبيلةِ والمالِ والسلطةِ
سأصافحُ "الشنفرى" وأغمزُ لـ"تأبط شرا"
وأشدُّ على يدِ عنترةَ، وأنا أبتسمُ له (لقد أجدت الحبَ والشعرَ يا صديقي الأسمراني)
وهذه هي الفروسيةُ الحقّةُ
ثم سأكتبُ شعري على صدرِ الليلِ
وفى قلبِ امرأةٍ عجوزٍ خانها الحظُ والأبناءُ
وعلى جبينِ حبيبي كي لا ينسى أنه قصيدتي الأجمل
وأخيرا سأتبرأ من كلِ ما كتبت
وأبكي على صدر أمي خفيفةً خفيفةً
كطائرةٍ ورقيةٍ في يدِ طفلةٍ بضفيرتين حالكتين
وفرحٍ أقصر من حذائِها الذي لا مقاس له إلا في الحلم
غنج سمج
أدركتُ بعد "أشوبا" أن الطبيعةَ امرأةٌ لعوب
وأن الصدفةَ هي لعبتُها المفضلة
وأنها تضحكُ بغنجٍ كلما ذهبَ الناسُ في الحذرِ
فتغيّرُ خططَها لتحظى بالقليل من المتعةِ
وتظلُ تتلاعب بأعصابِهم من عليائها
وتدَّخرُ الماءَ في سعنها البعيد
وتشدُّ قبضةَ الريحِ وترخيها كيفما يحلو لها
وقد تقضمُ أظافرَها في حنقٍ وتلملمُ أشلاءَ الغيمِ
أو ترغي وتزبد وتسرف في الضيم
مكايدِةً لابنها العاق الذي يحمل جينات العبث
فالمطرُ الذي غسلت به شواطئ "مصيرة"
يكفي لغسلِ أرصفةِ العالمِ المتربةِ
وسقي أشجارِه اليابسةِ
وإنعاشِ قلوب مناطق مجدبة تحتلم بالماء ليلَ نهار
ومنحِ عدةِ ألاف من البشر في مكان آخر، الفرصة للشرب أو الاستحمام
لكن الأمر عائدٌ لمزاجها المتقلب الذي يشبه مزاجَ شاعرٍ بعد الكأس العاشرة
الضجر يجعلُها ترقص أحيانا بلا هوادة
ثم تبكي لتغرقَ الأرضَ
وترفعُ شعرَها الطويلِ بحركةٍ من أصابِعها المتخشبة
فتكاد تخلعُ القلوبَ هلعا
كبابٍ قديمٍ لم تمتحنْ صلابتُه يوما
الطبيعةُ أم الإنسان، أكثرُ جنونا مما نتخيل
وأكثرُ عبثا من قلبٍ كسرَه العشقُ
ولم يعدْ هناك ما يخسرُه
وأجمل مما نظنُ من فكرة "العقاب" و "الثواب"

*أشوبا: عاصفة مدارية في بحر العرب 11-12/6/2015 / مصيرة: جزيرة في المنطقة الشرقية من عُمان





طرزان

الرجل الذي أحبّتهُ الشجرةُ والغيمةُ
وخبأتْه المحارةُ في جوفِها
وسهرت له حارساتُ الليل
وجنياتُه
وراقبتهُ حورياتُ البحرِ ونجماتُه بشغفٍ
وتنهدتْ النخلات كلما نظرَ إليهن
وتمايلتْ الغافة بثقلها نحوه
وتعرّقتْ السمرات كلما ابتسمَ لهن
الذي ذكرتْه الصحراء للبحرِ حتى احمرّ وجههُ غيرةً
وتحدثت الأرضُ عنه كأحنِّ أبنائِها
وقايضهُ الليلُ بأشعارهِ كي يتركَ له بعضَ حبيباتِه
هو رجلي أنا فقط


شيءٌ يخص المرء وحده

أحب الغامضين المالحين التائهين
الذين يعتصِرُهم الألمُ كمخاضٍ أزلي
وينهشُهم القلقُ كأفعى تتربى لتحسنَ اللدغ
الحيارى والممسوسين بالشك
المجانين والدراويش والمعتزلة
الذين يرعبهم الضوء والكلام والقمم
ويركنون للظلِ وصدورِ حبيباتِهم آخرَ الليل
كي يتطهروا بالدمع
ويباركون لعناتِهم كي تستطيلَ كظلِ شجرةٍ مقدسة
الوارفين باليأس والخيبة والسراب
المجيدين بالجراحِ المشتعلة
والمورقين بالهزائمِ والانكسارات واليتم
المتساقطين من علٍ كالمنحدرات إذا يشهق الرعدُ
أو يتململُ الغيمُ
أحب هالاتِ السوادِ تحتِ الأجفان
ورعونةَ القرفِ الطافحِ على الوجوهِ
والحزنَ الطافي على المقلِ الزائغة
لأولئك الذاهبين في الرؤية بالتشظي
وفي الوعي بالملحِ
وفي البهاءِ بالصمتِ
وفي اللغةِ بأزاميلِ الوجعِ
ولا أحب المنبسطين كأيدي الشحاذين
وواجهة المحلات
ووجوهِ الإعلانات
الفاردين أجنحتَهم للشمس بلا تحليق
أعشياءَ الضوء المتلوّن
الزاحفين خلفَ الجيفِ والمستنقعات
الراجفين والواجفين في الفكرةِ والرؤيةِ والحفْر
مثيري الحنقِ والقرفِ بمباهجهم الرخيصة
وكثافتِهم اللزجة
وصفاقتِهم الشاجّة للعتمة الحنون
وهذا شيء يخصُ المرءَ وحدَه


اعتراف


أنا قديمةٌ جدا كالطبيعة
ولذا تعرفني السماءُ والأرضُ جيدا
حين أمشي غاضةً البصرَ عن كل شيءٍ
وكثيرا مالا أنتبه للكثير من النتوءاتِ والأشواكِ
قبل أن تخترقني
وتضحكُ الأنهارُ والبحارُ حين أتوقف لأتأملَها طويلا
لأنها تدركُ أنني مائيةٌ وبسيطةٌ مثلُها
ويغريها شرودي الوفيرُ في مواسمِ تزاوجِ الرخويات
بالغزلِ والشعرِ
ولذا أيضا يسقط المطرُ في روحي تماما
يمتزج بطيني وأصيرُ لينةً وقابلةً للتشكيل
ولذا أخشى الوقوعَ في الحبِ كل مطرٍ
كما أخشى أن أرتطمَ بحوافِ الكونِ الحادةِ
وبضحكةِ طفلٍ متروكةٍ بإهمالٍ في زاويةٍ من قلبِه
وبدمعةِ وحيدٍ أو عاشقةٍ
كل مطرٍ أصبح هشةً جدا
ويصبحُ من السهلِ إعادةُ تكويني بشكلٍ آخرَ
وقد أجفُ لاحقا في ذلكَ الشكلِ الجديدِ
وهذه فرصتُك الوحيدةُ إن كنت تتمنى أن تصبحَ نحاتًا أو إلهًا



صباحٌ ضوئيٌ جدا

كلُ صباحٍ
بعد أن أطمئنَ أن قلبي بخير
ومازال الدمُ يتدفق في شرايينِه التي تتسع كالنهارات أحيانا
وتضيقُ كقلوبِ الغرباءِ أحيانًا أخرى
أستعيدُ وجهي من المرآة بعد أن أكونَ قد وضعتُه جانبا في الليلِ
فتحفظُه هي بوفائِها المعهودِ
ولا بأسَ بأن تضيفَ عليه وشمًا أو خطًا أو هالةً أسفلَ العينين المرهقتين من قلةِ النومِ
ثم أدلقُ لجوفي كل أنهارِ العالمِ لأبرهنَ على انتمائي العضوي للماء
وبعدها أشرئِبُ في سمارِ القهوةِ وعنفوانِها الأخاذ
ومعها أدسُّ نفسي بهدوءٍ يليقُ بما تبقى من النعاسِ والحلمِ في ملامحِ (الفايس بوك)
أطمئنُ أن أصدقائي بخير
أحلامُهم المعلقةُ بلا حذرٍ على مشانقِ الضوءِ
عواطفُهم السائلةُ في بذخِ الكلمات
ألوانُهم المنتشيةُ بالعبثِ على مدارجِ الكونيّةِ
صفيرُ أحزانِهم العابرةِ كالقطارات
أوجاعُهم الطريةُ وأفراحُهم المتخشّبة
ضحكاتُ أطفالهِم الطازجةُ
ودموعُهم النيئة من فقدٍ أو فراقٍ
أو عشقٍ كاذبٍ
بخير
أتتبع كذبَهم الأنيقَ
ووشوشاتِهم الحالمةَ
ورسائلَهم السريةَ
وفيوضَهم المعتمةَ
وكثيرا ما أضع (لايكا طيبا) لخربشاتِهم وأوهامِهم
لاحقا ألتقط لنفسي (بكاميرا المحمول) صورة
 وأنا أقتعدُ ظلَ شجرةٍ ضوئيةٍ على كرسيٍ افتراضي
أبتسمُ بخبث للصورةِ لأبدو وافرةَ الفرحِ
وأضعُ عليها تعليقًا خرافيًا يشبه الشعر
أو أضع معها رابطًا لأغنيةٍ خاصةٍ
وأنشرُها كوهمٍ إضافيِ
ثم أنتظرُ (الكثير من اللايكات والتعليقات)
بفرح طفلةٍ تجلسُ على عتبةِ منزلِها
تبتسم للعابرين وتنتظرُ من أحدهم قطعةَ حلوى
أو ابتسامةً ممزوجةً بالمحبةِ، أو تحيةَ (صباح الخير)!



إعجاب

تبهرني تلكَ الغافةُ
التي تبتسمُ حنانا كلما تلاقت نظراتُنا
ذات صدفةٍ عابرةٍ
تستيقظ ذاكرتي بين يديها
وتعلي وقعَ حديثِها الدافئ
كجدةٍ حكيمة
واقفةً تحيا
واقفةً تموت
شامخةً رفيعة
تغازلها الغيومُ والطيورُ
وتعصِفُ بها الريحُ
وتهتفُ بها المسافاتُ
عميقةً راسخةً
تذهب جذورُها في البعيد
وبتقدير عظيم أنحني لثباتِها
وأنا ألمحُ شجرَ الزينةِ  ينتصبُ بسخاءٍ
ويذوي  سريعًا على حافةِ الطرقاتِ



صلاة

أريد أن أنامَ يا الله
فقط أريد أن أنام
أبعد عني تلك الأحلامَ التي تهجمُ عليّ مثل نسورٍ شرهةٍ
لأطفالٍ بلا رؤوسٍ يسيرون زرافاتٍ
وأمهاتٍٍ بلا أرجل يزحفنّ خلفَهم
ورجالٍ بلحى طويلة يحملون مطارقَ وأكفانًا يركضون في خلفية المشهد
والزبدُ والدم يسيل على جوانبِ أفواههِم
وكل واحدٍ منهم يريد أن يأخذني معه
أريد أن أنامَ يا الله
فقط أريدُ أن أنامَ
أبعد عني تلك الصورَ البشعةَ لمقتل شابةٍ على يدِ شقيقِها
لأنها ارتجفتْ قليلا بنسيمِ الحبِ كزهرةٍ في مطلعِ الربيعِ
وطفلةٌ تصرخُ في أمِها (حرام عليكم) إذ تقتلعُ بتلةٌ من زهرةِ جسدِها
 باسم الدينِ والطهرِ
وأطفالٌ يحلقونَ بكراريسهِم البيضاءَ فوقَ رؤوسِنا كالطيورِ المهاجرةِ
والسيوفُ التي تلمع من فرطِ الرغبةِ
والسكاكينُ الملطخةُ بدم الخطيئةِ
والأسلحةِ الصدئةِ
والقلوبُ المتآكلةُ كجدرانِ معابدٍ قديمةٍ
والعقولُ التي رانَ عليها الصدأُ
كسفنٍ غارقةٍ في الصحراء
أريد أن أنام يا الله
فقط أريد أن أنامَ
أبعد عني تلك  الأفكارَ المدببةَ التي تخترقُ رأسي بمساميرِها الطاعِنة
عن الخيرِ والشرِ
والثوابِ والعقابِ
والوجودِ والعدمِ
والشكِ واليقينِ




الغريبة


امرأة من كوكبٍ آخرَ تطرق بابي
كصديقةٍ قديمةٍ
تجلسُ لقلبي لتجسَّ نبضَه
تتبادلُ معي الشكوى والفناجينَ والضحكاتِ
امرأةٌ برائحة الخدر
تشبهُ كل النساءِ وهن يرفلن في جراحهِن
ويخضبن الأرضّ في الأعيادِ بالفرحِ
ويتصاعدن في مواسمِ الخصبِ والحصادِ
وفي كل خريفٍ يتعريْن بلا وجل
ويعشن في لهفةِ التفاصيلِ والقلق
ويمتن واقفاتٍ كالشجر
امرأةٌ بملامحَ مختلفةٍ
لا أستطيعُ أن أعطيها صفةَ القبحِ أو الجمالِ
فهمتُ لغتَها التي لا أعرفُها
عيناها الغائرتان كانتا تخترقان صدري تماما
فمها المزمومُ على لحظةِ غيظٍ كان يخبئُ كلاما موجعا
قلبتْ يديْها وهي تتحدث كامرأةٍ تقلّب خبزا بين يديها
أو أم تلفُّ صغيرَها في القماطِ بخفةٍ
تمايلتْ كراقصةٍ ليّنةٍ مأخوذةٍ باللحنِ
ثم ضحكتْ بغنجٍ يشبهُ غنجَ نساءِ الأرضِ في لحظةِ عشقٍ
وهي تغلقُ البابَ على الحلمِ
وتتركني لحيرتي
ترى ماذا كانت تريدُ أن تقولَ لي؟


تماثل

تتمايلُ روحُك خفةً على مدارجِ الرؤيا
أنت المثقلُ بأوزارِ الشكِ والمجهولِ
وفحيحِ الأسئلةِ في رأسكِ الثقيلِ
تتبصرُ حفيفَ القومِ وهم يدوزنون نشازَهم
خارج أرواحِهم بلا تماسٍ مع الحقيقةِ
محملين باللهفةِ الوارفةِ للأخذِ والتصيّر
ملتحفين صداراتِ الكذبِ المزركشةِ
متصنعين أدوارَ البطولات
كسيحةٍ أحلامَهم
يعبرون كل ذلك الزيفَ بيقينِ العارفِ
وماضر لو تريثوا قليلا؟!
لعلهم يدركون
أن المعجزاتِ تحدثُ في الداخلِ
وأن للخفةِ ميراثُ الفرحِ
وأن الجمالَ صنعةُ الربِ
وأن الصدقَ رسالةُ الأنبياء



عهد

سنمضي معك أيتها الحياةُ
نحن أبناؤك المخلصون
لن نتوقفَ
لن يفصلنَا عنك سوى الموت (طفلكِ المدلل)
وحتى ذلك الحين سنتقاسمُ مع الشمسِ أرغفةَ الضوءِ
وسنغني أغنياتِ الحصادِ والماءِ
وستركضُ في دروبكِ المتعِبة بكل لزوجتِها وحفرِها وعثراتِها
بلا دليل
سنتعشقُ التيهَ
ونحاولُ الفرحَ
وسنقومُ ونقاومُ بعد كل سقوطٍ لننفضَ الترابَ والنعاسَ
سنتفرسُ في كل الوجوهِ المعتمةِ كثيرا لنتعلمَ دروسَكِ القاسيةِ
وسنلعنُ الحظَ أحيانا في مخاضاتِه المتعسرةِ
وسنضحكُ على كلِ شيءٍ أحيانا أخرى كغجرٍ لا يفقهونَ فكرةَ الأمانِ
وسنظلُ نحاذي نهرَكِ المتسخَ بأدرانِ البشرِ
ونلهثُ خلفَ شعركِ الطويلِ
كعميانٍ مفتونين بالسرابِ
محاولين دمجَ رحلتِنا القصيرةِ في رحلتِك الطويلة
حتى حين
فلا تغلقي عينيِك عن خطواتِنا المرتبكةِ
إذا لم تباركيها؛ فاستمعي فقط لأحاديثَ اللهاثِ والعبثِ
وابتسمي لها ولنا قليلاً كل صباحٍ
لنظلَ على قيدِ القهوةِ والأمل.



منجل

الموتُ القبيحُ ذو الوجهِ المجدورِ
المملوءِ بكل البثورِ والدماملِ والحفرِ
الذي تستعيذُ منه الشياطين والمرايا
الموتُ القصيرُ القامةِ الذي يتعثََرُ في ثوبِه الطويلِ
القميءُ كشبحٍ في مسرحيةٍ هزليةٍ يتهادى برعونةٍ عمياءَ
أو كشيخٍ متصابٍ يتتبعُ عوراتِ الليلِ بلزوجةٍ ودبقٍ
أو ككائنٍ بلا ملامحَ في فيلمِ رعبٍ رخيصٍ يستثيرُ الغثيانَ والسأمَ
هو ذاتُه الذي يمشي بيننا بكلِ عنجهيةٍ وبطرٍ
يضحكُ من مشاريعِنا المؤجَّلةِ
وأحلامِنا المنضودةِ في أدراجِ الأمل
وفي خزائنِ الحياةِ
ومن أمنياتِنا الصغيرةِ بضحكةٍ مشقوقةِ الجيبِ
أو لهفةٍ نيِّئةٍ تغذي خيالاتِنا الواهمةَ
هو ذاتُه الموتُ الذي ينشطُ في الحروبِ
ويوظّفُ الكثير من المعاونين والسيافين والقتلةِ
ويشحذ أنيابَه كل نازلةٍ مثل دراكولا نهمٍ ليعضُّ على أعناقِ الضحايا
ثم يرقص منتشيَا بالدوارِ والدمِ
ويكملُ دورتَه بخيلاءِ طاووسٍ حقيرٍ
أو زهوِ جلادٍ قديمٍ
يقولُ للأطفالِ سيصحبُهم في نزهةٍ ليشتري لهم المثلجاتِ
قبل أن يشقَ صدورِهم ويبتلعُ قلوبَهم وهي ماتزال تنبضُ بالفرحِ
يتخفى للحسناواتِ في رداءِ العاشقِ
قبل أن يسحبَ أرواحَهن بشغفٍ
يغني للجدات كي يطربن؛ فيعلقُ أرواحَهن في طرف الأغنيات
ويومئ للآباء والأمهات نحو أبنائِهم؛ ثم يسحبُ مديتَه نحو صدورِهم الراجفةِ
ويرمي خطافَه للشعراءِ في منقارِ طائرٍ يحملُ سنبلةً أو زهرةً بريةً
فيضحكون من حيلتِه البلهاء
ويكايدونه بالقصائدَ والأملِ
ولكن ولأنهم يحبون المغامرةَ
لاحقا يلتقطون الطائرَ والموتَ معا ويذهبون بضحكةٍ ناقصةٍ



اعتذار

أعتذرُ للموتى الذين نبشتُ قبورَهم
وكتبتُ عنهم ولو سطرا واحدا
وللأفكارِ الغافلةِ التي داهمتُها على حينِ غرةٍ
وللأحلامِ الساذجةِ التي ربيّتُها على مهلٍ
أعتذر للمرضى الراقدين في المسافةِ بين الحياةِ والموتِ
وللأمهاتِ الطيباتِ
وللآباء القساةِ
وللجدود الموتى، والذين على وشكِ الموت
إذا مثلْتُهم في الاستعاراتِ والمجازات
أعتذر للعشاق الصادقين والكاذبين
إذ  كورتُ من كلماتِهم العشقَ المنتهي الصلاحيةِ على حد الكلام
والكلام المستيقظِ على حدِ الليل
أعتذر للأرضِ وللمطرِ
اعتذرُ لليلِ وللنهارِ
أعتذر للحزنِ والحلمِ والانتظارِ
وللفرحِ الشحيحِ، وللقلبِ الشائخِ
أعتذرُ للحبِ وللبحرِ
وللشاطئِ وللكلامِ
أعتذرُ للشعرِ وللتاريخِ، وللحبِ وللوعيِ
وللماضيِ والحاضر والمستقبلِ
أعتذر للخيرِ والعدلِ والحريةِ
للكتبِ والوهمِ والنومِ
أنني ما زلتُ هنا
وما زلتُ أكتبُ عنهم
فلا يمكن أن أكونَ هنا ولا أكتبَ
فهي الوسيلةُ الوحيدةُ للخلاص
والانتحار رغم كلِ هذا البؤسِ مخيفٌ جدا
وأنا امرأةٌ جبانة!


حيرة

من أي فجرٍ نطعمُ الخيالَ، والظلامُ حالكٌ؟
وبأي لغةٍ نطهّم المعنى بالقليلِ من الأمل؛
 وكلُ شيءٍ يشدّ عرى اليأسِ، ويجلي اصطباغَ الحقائقِ بالزيفِ؟!
عن أيِ شيءٍ يمكنُ لأصابِعِنا المنعقِفة بالخوف أن تكتبَ؟!
أيُ شعرٍ يمكنُ أن يستديرَ بين حروفِنا المعمّدةِ بالسوادِ والموت؟!
وأيُ سردٍ يمكنُ أن تنسجَه أقلامُنا، والقصصُ كلُها بلا أبطالٍ؟!
وأيُ كتابةٍ مجازيةٍ يمكنُ أن تكونَ أكثر غرائبية من هذا الرعبِ؟!
وأي استعاراتٍ أكثر تمثلا وتصويرا من هذه الصورِ الموجعةِ ؟!
أي كنايةٍ؛ فوق جَلدِ الوعي جهارا نهارا
وإعدامِ الكلمةِ في حُنجرةِ الرائي ؟!
وأي تشبيهٍ أكثر بلاغة، من وأد الفكرة في الرحم الأول؟!
وقد أضحت اللغةُ موجوعةً، والبلاغةُ فقيرةً
والحالُ بليغ كالعدمِ
والقراءاتُ معكوسة؛ كرقيةِ الساحرِ
والفكر مشلول الرؤيةِ؛ كحارسِ الضباب
والخرس وحده، يطبِقُ على ما تبقى من منطقٍ عليلٍ!



كابوس

كانت الدنيا مظلمةً وثمة دمٌ يتقاطر في كل مكان
ورائحةٌ نتِنةٌ تغطّي المشهدَ
ولسنٌ مشحوذةٌ للنباحِ والشتائمِ
وهرّةٌ عجوز مرتخيةٌ في إحدى الزوايا بوجع
ورجلٌ كبير في السنِ بقدمٍ واحدةٍ وعينٍ واحدةٍ
ينتحب في بقعةٍ مضيئةٍ
كمشهدٍ مسرحيٍ محترفٍ وموجعٍ
وأطفالٌ ممتلئون بالقيحِ كأجنةٍ خرجتْ للتو من أرحامِ أمهاتها
 يلعبون لعبةَ الموتِ الخفي
جثثٌ محرّقةٌ تمشي في موتِها
ودموعُ النساءِ تشكّل أنهارَ العالمِ
كنت أرتجفُ فهرعتُ للشعرِ واحتضنتُه بقوةٍ
وخرجنا معا نحو واقعٍ أكثرَ مرارة!



درس قديم

كان الغرابُ الذي ينعقُ بالقربِ مني
ومن البحرِ أيضا
الغرابُ الحكيم
 الذي لا يسعفُ الكون ظمأه الأزلي للمعرفة
قلقا، يحاول أن يخبرني بالسرِ
-"الحياة ليست سوى الحب"، قال.
كنت أنصِتُ بحماقةِ الإنسان
وأذهب مع الصمتِ في داخلي
-"لكننا لم نتعلم جيدا كيف نحب!
أنزلنا الربُ إلى الأرض على عجلٍ
كان هو غاضبا وكنّا نعتذرُ بإلحاحٍ فقط"، قلت.
-"لا حقا كانت الأرضُ تحاول أن تفعلَ
حيث يستطيل الشجرُ في الأجساد
وتشرئِبُ الجبال في الوعي
ويضحك الماءُ في الدماء
وتتفتحُ الزهورُ في الكلمات
ويمتد التيهُ في الأحلامِ"، قال.
-"ولكننا قليلا ما كنا ننتبهُ!
منشدهين بالصدفةِ نعبرُ
نفتشُ عن كنزٍ بعيدٍ
في حين تتساقطُ شجرةُ أيامِنا
ورقةً ورقةً
ويجفُ الحبُ على أغصانِها" قلتُ
طار الغرابُ
وظلت الفكرةُ على سدرةِ البيتِ
تناوشُها العصافيرُ بمسمياتٍ جديدة "كالحرية والعدالة"
في حين كان القطُ يفكر بالتهامها دفعةً واحدة
قبل أن يهربَ إذ أخذ يعلو صوتُ كلبةٍ بعيدةٍ تحرس صغارهَا من الجوعِ
وهناك ضحكت اليرقةُ في جذعِ الشجرةِ
وهي تنزلقُ نحو الكون فراشةً جديدةً
محتفيةً بالحب


سور الحنين

البلدةُ العجوز التي تتوكأُ على "الغاف" والنخيلِ
وتمد أقدامَها في مياه البحرِ المالحةِ كلَ ليلةٍ
لتخففَ من حدةِ آلامِ المفاصلِ وصداعِ الحنين
البلدةُ التي تخلعُ ظلالَها كل شهرٍ لتغتسلَ عاريةً في مقلةِ القمر
البلدةُ المالحةُ الممتلئةُ بالشجنِ والحكاياتِ القديمةٍ عن السحر، والجن، وحوريات المرجانِ
الهادئةُ إلا من أصواتِ الكلابِ وبنات آوى
العَطِرةُ كشجرةِ الليلِ، والمعتّقةُ بروائحِ اللذةِ كالبخورِ، والصندلِ، والزعفرانِ
البلدةُ التي تغفو كل ليلةٍ بفرحٍ على زند شجيرات "السمر والشريش" الصغيرة
مع "الصفاردِ" وعصافيرِ الجنةِ
وبين أوراقِ الليمونِ كـ"المتوه" المختالِ بألوانهِ اللامعة
وتصحو على غناءاتِ النوارسِ للبحر، وما تناثر من دموعِ "برغوم الخور" الوحيد
البلدةُ التي تستيقظُ قبل أن يشبعَ الليلُ من السباتِ؛ فيحملُ فِراشه وهو يفركُ عينيه بغضب
 قبل أن تكتحلَ هي بالضوءِ
وقبل أن تستعرضَ الديكةُ أصواتِها المبحوحةَ في لجةِ الفجرِ
فتهرعُ تدلك ظهرَ المسافاتِ بالصلاةِ والدعاء
وتدغدغُ أقدامَ صغارِها بالخطوات
وتشدّ على عزيمةِ الرجال
وتدسُ العشقَ في مفارقِ النساءِ مع "الدهان، والورس"، وفي كفوفهن مع العطرِ والحناءِ
وتعجنُ قمحَها للعشاقِ والعائدين، وتخبزُ الرقاقَ للجائعين والحالمين
وتهدي روائح "اللولاه والزلابيا" للعابرين دربَها المتدثر بمعطفِ الشوقِ
وتفتح للنهاراتِ بابَها المزدحم بالأغنيات والأناشيد، لأبنائها النائمين في عرضِ البحر
وتأذنُ للشمسِ بمعانقةِ الأفق قبلَ موعدِ الشروقِ
لتفرحَ بمرأى أطفالِها يتضاحكون مع الغربانِ، وهم يجمعون مالذَّ من ثمار البحر في "الضغوة"
أو وهم يزفون عروسهم "الكيذا" في خجل العذارى إلى البساتين البعيدة
ثم تلاطفها كثيرا؛ كي لا تبكّر في المغيب؛ ليتمكن أبناؤها الطيبون في الحقول
من استكمال أغنيات الحصاد
وكي يشرب النخيل و"الهمبا،والبيذام" مالذّ من حليب السماء
ثم تجمع الياسمين و"الفرصاد" في شالِها الكبير؛ لتعود به للأمهاتِ والأطفال
البلدة الطيبة العجوز تبدو سعيدة جدا؛
إذ يهطل أبناؤها كلما حررتهم المدن من قيودها الثقيلة كل خميس
وكأمٍ حنونٍ تتحسس وجوهَهم بيديها الضريرتين
وتعدُّ ندوبَ قلوبِهم التي تركتها المدينة، بعجرفة المدنِ والنساءِ الجميلات
وتحصى أحزانَهم التي عرَّشت على الأرواح بعيدا عنها
وتهرع باستبسالٍ فريدٍ في تعليمهم فروضَ الفرحِ والغناءِ



أمنية بعيدة جدا 

أريد أن أكونَ غيري تماما لزمنٍ ما
طاهيةً في مطعمٍ تحضّر الوجباتِ السريعةِ وتداعب الشيفَ السمين بكلماتٍ بذيئةٍ مثلا
 نادلةً تقدم الشرابَ للسكارى وتضحكُ لتصرفاتِهم الرعناء بعد الكوبِ الخامس
 راعيةً في جبال الحجرِ تسوق أغنامَها كل صباحٍ
وتعود في المساءِ مثقلةً بالفضاء الرحبِ الذي تحضرهُ معها، فتتغطى به وتنام
أم تستيقظ كل ليلةٍ سبعَ مرات لتتفقّد صغيرَها
وتنامُ  من شدة التعب حين يبدأُ بالصراخ
عارضةَ أزياءٍ تمشي بخيلاء على منصةِ العرض
وتنظر بحسدٍ وكل صباح للسيدةٍ الممتلئة قليلا في المطعمِ المجاور حين تطلب كعكعةً بالجبنِ مع القهوة
فقط لو أننا نملكُ حياةً أخرى تماما بين الفينة والأخرى



تيه ثلاثي الأبعاد

   أعيشُ كنخلةٍ مصابةً أبدا بحمى التيه
تفتح ذراعيها للشمسِ كل صباحٍ
وتعشقُ النجمةَ التي فوق رأسِها كلَ مساءٍ
وتنظر للغرباء بخوفٍ ممزوج بالود
تيهُ يتلبّسني  بلذة!
يسرفُ بي في التمددِ والارتهانِ للمجهول
ويدفعُ بي للتحليقِ حول فقاعةِ صابونٍ في يدِ طفلةٍ شقية
أو طائرةٍ ورقيةٍ تحلّق في المطلقِ
فلا أعود !



قلق

ماذا أفعل بي؟
تبدو حياتي بسيطةً جدا
وخاليةً من التعقيدات المهمةِ للبشر
حبيبٌ واحدٌ
وأصدقاءٌ قلة، أغلبهم من ضوء
ووالدان كبيران في المحبةِ والعمر
وشقائق النعمان تزهر في دمي أخوةً وعطر
أحب الطبيعةَ أكثر من البشرِ
وأحب الصمتَ أكثر من الكلام
لا أملكُ مواهبَ النساءِ في التباهي
ولا مواهبَ الرجالِ في الاستعراضِ والسيطرةِ
أحبُ الأطفالَ والمسنين والقطط َبذات الدرجة
وأعشقُ العصافيرَ والغيومَ بالقدر ذاته
أبدو مملةً في الصباحِ الباكرِ
ومنتشيةً كراعيةٍ عائدة من المراعي بخفةٍ في المساء
وأصبح مالحةً جدا، وجاهزةً للبكاء عند البحر
داكنةً في الشمس
وخفيفةً وجاهزة ًللطيران عند نزولِ المطر
ذابلةً في الصيف
ومزهرة ًفي الشتاء
أعرف نفسي أكثر من أيَ شيء آخر
وأحب اللهَ وأمي بذاتِ القدر
روحي لينةٌ وجاهزةٌ للتجذّر
وقلبي مثقلٌ بالحبِ والثمرِ
ولجسدي رائحةُ الطمي والغاباتِ
فقد كنت في البدءِ شجرةٌ!
هي ليست أنا

المرأةُ التي في المرآة ليست أنا
أنا تلك البعيدة التي كنتُها في البدء
تلك الشجرة
سيدة العزلةِ الجريحة والصمتِ الأبدي
التي نبتت صدفةً على مفارقِ الكونِ وسخرياته القاتمة
تلك التي يرعبها هذا الضجيج
وتأكلها الحياة الفارغة
التي تتسلق الأحزانُ روحَها كالعليق الطفيلي
التي يكبر الفراغُ داخلَها كل يوم
وهي تلمح الطواويسَ بريشِها المتقصفِ تتصدر الحضورَ
وترتعب من التغريد القادم من شجرة في زاوية قصية
تلك التي تبكي دمعا أخضرَ حين تشاهدُ الغربانَ وقد تنكرت للحكمة
وصارت تحطُ على الياسمينِ الذابلِ بغيةَ القليل من الرائحة
والعصافيرَ الصغيرة تتعلم الطيران في ذات الفلك
وتتتبّع حركةَ الأجنحةِ المتقصفةِ وتتمسحُ في القليل من الضوء
تلك التي تعلمت باكرا لذة الهروبِ من هذا الصخبِ والانضواءِ في الظلِ
وفي كل مرة كثعلب جبانٍ تخلع فروتَها في وجوهِهم القبيحةِ وتهربُ نحو الغابةِ
ترتدي ظل كينونتِها الخائفة
وتتوحد مع نخلةِ عتيقةٍ
مع جذعِ شجرةِ موزٍ
مع شجرةِ مانجو
أو بيذامةٍ حسناء
فيرى الكونُ قلبَها وهو ينغرز في الأرض
يصافح الجذورَ والطمي والطينَ اللازب
ثم ترتقي للأغصانِ في رأس تلةٍ، مأخوذةً بالرؤيةِ البعيدة
تنظر للعالم بزاوية ما
فيشتعل رأسُها المولعُ بالتفاصيلِ والقلق
وتغيبُ في ضبابيةِ الرؤية
وتعلم أنه في يومٍ ما سيقول العالم
هنا عبرت امرأةٌ كانت تعيش كشجرة
وتكتب نصوصَها على الماء