التخطي إلى المحتوى الرئيسي
"سوف أكتب رغم كل شيء، سوف أكتب على أي حال، إنه كفاحي من أجل المحافظة على الذات" كافكا

على الماء أكتب 2014


على الماء أكتب " شعر " دار الانتشار العربي بيروت . 2014






1. نفاف القلب



دمع أزرق .. محاولتان للهطول الأخير

1.

سأغفل عن دمي
عن حنين أضلعي للنهايات
وعن وشوشة الأشياء الصغيرة بيننا
عن الكلمات إذ تخلّت عن حذرها
فخلعت رداءات الريبة في دفتر الحظ
وعن نصوص اكتملت في استدارة الشفتين
وعن الدمع يسرف في الاغتسال بالسهو
وعن التفاصيل تجرح الذاكرة
وعن الحلم يغزل خيوطه كبيت العنكبوت
ورعشة الأمنيات في اليتم
وعن اللهفة تنخر عظامي كدودة القز
تنسج صداراتها الموجعة
وعن الليل إذ يطرق بابي
بإلحاح طفل شاهد وجه الشيطان في الحلم
أو مسافر أرعفه الشوق
أو فاجأه المطر
وعن هديل الحزن في أحرفي
كنوتة من رضاب الموتى
أو سكرات لنوح الغريب
سأرشق عصياني بالندم
وأجرح كرامتي بالغياب
وأنزف أحلامي كشجرة اللبان
 بشهوة صمت
وسأرتق ثقوبي الكثيرة
بابتسامة أمي حين الدعاء
وبصوت أبي تخنقه العبرات
وبرائحة البحر إذ يرجفه وجد المساء للذكريات
وأرسم مكاني ظلا بلا أهداب
 وبدمعة حمراء


2.
سأستفيض فيك وفيّ
في ظلام اليأس
وفي عافية الموت
سأطرّز ثوب الحقيقة بمنمّنمات الغياب
ولن أبكي حين يغرغر الطائر من لهفته
وحين يرقص ويغني
 وهو يموت
بل سأعتكف على اللغات
كي اُطفئ ما تبقى من حنينها المازوشي
وكي أسرد للأطفال الذين يرهفون السمع بيننا
عن الحكايات الكثيرة لليل
عن بهو المسافات .. وشمعدانها الفضي
عن سرادقات الحفظ في الكلمات
 وفي صناديق الهواتف النقالة
عن تفاصيل الأصابع تنثني بعنت كالرخام
وعن الكلام
الكلام الكثير
الكلام المطعّم باللزوَرْد والأحجار الكريمة
الكلام المتشكل باقات ورد، وشموعا، وذكريات
الكلام المرسوم في محيا طفلة خرساء
وأم مرهقة من الشكوى
الكلام المتساقط كالمطر على الطرقات، والمكاتب، والأسرّة
والمعلّق بمشابك، ودبابيبس صغيرة بين السماء والأرض
الكلام الذي نبت في الغيم
وفي أصص صغيرة على محيط الدمعة المتلألئة بالفرح
وسأدفن القلب في دمعة كبيرة كي يغفو وحيدا
أو كي يغتسل من إثم الكلام
وسأدندن باللحن الذي نما على شفتين كوردة القُبل
وسأذبل عند حواف الحزن كالطفولة
وسأنام عند ناصية السهاد عاريةً من الخوف
فلم يعد بعد ما أخاف عليه


في غفلة الماء

أيها البحر
ها قد غسلت بعضي ببعضك
وانتشيت
ها قد أبحت لك الدمع، والدم دم ـــات
ها قد سويْت على عجل حواراتنا المالحة
وحزننا الدامي
ووجهنا المستحيل
ها قد أغريت نصفك بليلة ناضجة العشق
ورقيت قبرك بدمعة ثملى
وارتعاشة عاشقين على ضفة المستحيل
ها قد نما على صدغك الأيسر ما تيسر من الضوء
كأن لم يكن ثمة قمر في الجوار يسترق السمع
ها قد وليت ظهري لآهاتك الراعفة بالموت
فأين أناملك الآن؟
وأنا أناملي في ارتهان الغياب
في الشق الأوسع بين الليل والذاكرة
وأين صوتك؟
وقد أكل الحزن صوتي
وتبللت غنته الرخيمة بالدمع
*
أيها البحر:
أهبك الآن أغنية زرقاء
أنا أميرة الغجر
سيدة الماء والحزن
وآخر عرائس المستحيل
أنا شهرزاد المزادات واليتم
جارية السهاد
حارسة الأرق
وأنا الطريق الموصل للموت بشهقة
وأنا الفراغ بيني وبينك

*
أيها الموغل في المعنى كصوفي مريد
أيها الذاهب في الارتقاء
خنجرك أشهى من قُبلة في الهواء
وأكثر استدارة من نساء اليقين
فبكم تبيع صوتي الذي كان يغنيك ليلة العاصفة؟
وبكم تشتري دمعي الذي بكى عند أطرافك حين البأس؟
ومن أين تأتي، وإلى أين تذهب؟

*
أيها البحر:
هل نغتسل سويّا في صوت ناي؟
هل نتذمر كما كنا من أحاديث السهر؟
هل ننتحب كما عند كل فراق؟
أم سنصمت الآن؟
هل نستكين؟
أم سنرتعش كجثة طير سحبت روحه عنوة على حد مدية
ولم يصدق حادثة الاغتيال
فارتعش وصفّق
ورقص رقصته الخالدة
وهرول خلف طفلته الأثيرة
فجزعتْ
هل سترهقنا الحمى، كما أرهقتها طويلا ؟
هل سننام بعدُ بين المساءات، والصباحات على لغة من زبد وحلوى؟
وهل سننكر على المسافات حزنها؟
وعلى الأغاني يتمها؟
وهل سنبكي إذا داهمنا المغني العجوز، بأغنية تقول ما لا ينبغي أن يقال؟
وهل سنغلق الموضوعات على عجلٍ كما كنا، لنفتح أخرى؟
ونلعق صدى الجراح ؟
وهل سوف نكظم غيظا، ونفتح بابا للمشاكسة الحنون؟
وهل؟
وهل؟
أم سنبتلع الصمت على حده
ونذهب بلا مبررات غياب
وبلا ورود ولا أغنيات
وبلا مشاجب نعلّق عليها أمنياتنا في الرجوع
وبلا مزاريب تروي الشتاء؛ وقد جاء بطيئا بمطر شحيح وبرد قليل
هل سوف يسكرنا الحزن عن مبتغانا؟
وهل سنموت بالظمأ المبين؟ أم سنشرب على حزننا كي نرتوي؟
وهل سنموت بإثم الخطيئة في دم عاشق، أم سنغتسل بفوضى الندم؟
وحين نشجب ذاك الوريد المعطّل كي يستبيحه الموت
هل سيتوقف القلب اللعين
ونحن نمحو من خرائطه ذكريات الحنين؟
أم سوف يرعفه الموت كطائرنا المستباح، ويقتفي آثار رملك الرافلة في الخطايا؟
وهل؟
وهل؟

*
أيها البحر:
هذا القبر سجادة للضلال.. وشهوة للظلال
وهذا الفراغ مكين.. وهذا الجرح شهي
 فخذه إليك



ودق السؤال

لماذا كلما لمسْنا نجما أطفأناه ؟
وكلما تحسسنا قلوبنا أشتعل الحزن ؟
لماذا كلما باركْنا القيامات باركتْنا المقابر
لماذا كل شيء يصّاعد داخلنا، كدخان يغسلنا من بهجة العمر؟
لماذا يكحّلنا الزيف، بمراود تزجّ الغياب في رموشنا المخضلة بالبياض من شدة الدمع؟
لماذا عمر الأمنيات قصير ؟
والأحجيات تتأرجح كالمراجيح المعلَّقة في زوايا الزلزلة
***
"عفت ذات الأصابع"
فمن ذا يقرض الآن حنيني إليك مشجبا؟
ومن ذا يسوّي بيْني وبين كل هذا الحزن الذي يرشح في دمي
وهذا الغياب الذي يفْرش لي أكفانه، كأم داهمها الموت عاريا .. وما اشتعلتْ بالغياب؟
ومن ذا ينقذ وجعي الرهيف الخطى مثل السواقي؟
ومن ذا يجيرني من طعنات عطر يقضّ خطايّ
ويصلبني بين مفترقات الدروب؟
*

هل عليّ أن أنسحب من دمي إلي ؟
وأهرب خارج بيانات التوخي؟
ألا من وقت؛ لأخدر روحي بصدى صوتك المشجوج اللكنة على خارطة القلب؟
ألا من وقت لأستل عمري، من ثنايا الحلكة الممتدة على جانبيْك؟
أو لأبخرك برقية من عين العاشقين والحاسدين والموتى؟
ألا من وقت لأستطيل أمامك كـغابة رمل
ولأتباهى بي كاملة على مشارف اللهفة فيك؟
ألا من أمنية تحيك خيوط الغيم سلّما لنرتفع معا لسماء أخرى؟
ونتقلّص عليّنا شوقا، كذاكرة معتقة بالحنين
وأحاديث ناضجة على صخب المارة
ألا من وقت لنتلذذ بصدى الضحكة الباهتة، كحليب مراق، حين تهدر داخلنا ذات فرح خفي؟
ألا من مدى يستوعب كل هذا السغب  
لأحلم فقط بأن أوازيك بكلّي
أو لأبتلع حزنك المزّنر بالشعر
أو لأهبني لك متكأ للغياب؟

*
لماذا ...؟
كل الأشياء أبدا تنتعل ظلّها وتغيب
والحكايات سمروات يخضبن الروح برائحة الخيانات والفقد
والمُدى مشرّعة في انتظار فريسة الوقت
والسلام خرافة الأرواح المذبوحة من الوريد إلى الوريد
والحقيقة تتآكل من فرط نصوعها
والمزامير، فرائض الموتى في عناقهم الأخير؟

*

لماذا ... ؟
أصبحت قلوبنا غرف الجحيم السرية
و نذر الغياب الأخير
والوجع الطافي على مزاريب المطر
والحنين الملدوغ بالوقت
ولماذا كل هذا الحنين والفقد
يتطاول في شهقات الروح
ويعتق الأسئلة؟



نداءات مغسولة بالدمع

أي أنت/ أي أنا:
الألمُ خدَّر الأيام في نسختها الأخيرة
عمّق سراديب الفرح، كي لا نصل إليه
حفر بأظافره وجه الكون كي لانشتهيه
أسكن القلوب آخر الأشياء، التي لها خصيصة السقوط كأي تفاحة نتنة
القلوب الذي لم تعد لها طاقة تستنفر الحلم
كما لم تعدْ للموت أجنحة كي يهبط في دمي الآن
*
أي أنا/ أي أنت:
نفذت روائح الكافور إلى المنتهى
وآن الغياب
لم يعد ثمة مساحات خضراء
تربي شبق الحزن المتوارث عبر أيقونات الرغبة المتأججة
ولم يعد لدماء الدمى التي تصنعها على عجل
 قدرة على استيعاب الطعنة الخارقة
كل شيء صار يتبخر
يتبعثر
يتناثر كقصيدة متمرّدة
وثمة ما يتوزّع  في الدم، وفي جهات الوقت
كالسم
أو كرضاب الموتى
ولم يعدْ للاستثناء بـ"إلا" أو بـ"غير" و"سوى"
 مساحات صالحة للحضور في الروح المتشظية
فكل شيء يتماهى في الغياب

*
أي الذي ليس أنا
أي الذي ليس أنت/ الذي ليس أنا:
كيف يمكن للأشياء أن تُستجمع في ذاكرة تشبه ذاكرة الغيم
لها احتمالية التساقط في أي لحيظة؟
كيف نؤمن بالثبات؛ والاهتزازات تعمّد الكون برغبة الزلزلة وكل الأشياء تحوم كخفافيش الليل
تبارك كل شيء؛ إلا العشق وحاشية الكلام
وكيف نستل أبجدية الشوق
 من دم يرفض أن يهدأ أو ينام؟
*
أي الذي ليس أنت/الذي ليس أنا
كان ثمة حزن مبجّل نربيه معا
يمتص خيوط الرؤيا المنبثقة
من جداول الفرح المزنّر بوله الطفولة الخضراء
و كان ثمة موتى
يخلعون نعلهم المقدسة عند بوابات الروح بيننا
يسامرون جراحنا معا
الآن:
ما إلا أفلاج جافة، محفوفة بالملح
تسد حجارتها فروج القلب الشاسعة الحرقة
وتغزل لهفة العطش على مناويل الشمس
الآن ثمة صحراء باتساع اليم
وليس ثمة ماء
الآن:
أجنحة السلام واسعة المدى
باتساع كآبة ليست طارئة، وغير مبررة
 باتساع (ياء المتكلم) تفرك القلب برقصة الوهن
الآن:
 لاشيء هنا
لاشيء هناك
فسلام عليك/علي
في البدء والمنتهى




ندف الحنين

أقتعد الأرض على بعد حجرين من الكارثة
أرتّل أغنياتك مستأنسة برائحة السلام الذي تطاول في دمي
أستجير بالفوضى كلما لمحت وجهك من خلف نوافذ الزمن
يطرق بوابات الحنين لغيري
أمنّى الروح باكتحال الفضة من بريقك الذي تشتهي
أعمّد الكون برائحة الحزن الطرية المشتقة من بهتانك
وأشقّ جيّب التجلّد كلما قدّني الوله
وأشهق بك، منك، إليك
أما من بوصلة للقلب الذي تغشّاك سهاده حين لوّحت؟
أما تسمعني؟
ها كلي نداء.
*

أحتاج صوتك الخمري
كي أبيع السهاد على مرامي الحيرة
أحتاج دفء يديك
شهوةً للّمس
وهنة أعبر
والحروف كخزامى مهجنّة الروح
تهتف بك
تصرّ حين ألمس شغافها
أكتبك
الدماء مشرّبة بالعواء
والعويل ذاكرة الليل البهيّ
والمطارق لعبة اليد الخفية في قلب مثقوب حتى آخر مضغة
والشوك جنة الحالمين، وفرشهم الأثير
فمن ذا يوقف جلادي السماوات؟
ومن ذا يقصقص أطراف الوجع المستدير عند حواف الكبد؟
ومن للغياب المبهوت من حرقة الرؤيا؟
ومن للبكاء؟
*

السماوات المتهالكة الخطى تنضح بالمنتهي
والوجع المتطاول يأكل الروح بشهية قادم
والدروب تتربص الخطوات كي تغير على ما تبقى.
ماذا تبقى؟
والهلاك لعبة الدرب

*
أي عصا تصلح للأعمى؟
أي مباركة تندّ عن كاهن يعتمر الرغبات؟
ولا أمهات
ولا دثارات تلّف كل هذه الشتاءات المتدافعة
 والجنازات وطن
 ويوما قد نباغت اليقين بارتباكة القلقلة
ونوزع العشق في جفان الروح كي تسكبه على بواباتها المتأججة الانتظار
ونسعف الحمّى برعشات خضراء، تصلح " شالا " للبرد
ونوزع أجسادنا دخانا للموتى أصدقاء الرحلة
الذين كلما تبرأنا منهم تشفعوا بالغياب
علّهم يتقنون لعبة الصمت لليلة واحدة
أوعلَّهم يشربون نخب رؤوسنا الثقيلة في جماجمهم الفارغة
ويعرّون أجسادهم على مشاجب أرواحنا الهشة
أو علّهم يعلموننا أبجدية العيد، دون أن تتشابك الأيدي في العبور
وعلنا نعرّي الوحشة التي تعوي داخلنا
ونقشع عري ذلك الخواء المستأنس
ونستأنف خفة العدِّ للأعياد
الذي سقطت سنها الأخيرة عند آخر قضمة من حلوى الأمهات المدهشة منذ أعوام
فلم تعد بعدها قادرة على دغدغة الفرح
وعلّنا نتعلّم لعبة النسيان
أو حتى مساومة الصفح لكل من سحب سكينه بشكل أبطأ في كرتّه من الذبح
علّنا نغري اللغة التي جفلت من دمائنا الملوثة بالحزن
بقليل من البهجة أو العتب
أو علّنا نقدر أن نشدّ بحميمية على يد صديق قديم له رائحة غابة
لنعبئ دمه بقليل من الملح
ونخلع أحذيتنا في وجه الريح
ونغادر ونحن نردد
 (سلاما..سلاما)  



تعويذة عمياء

في أصابع الوقت المتشابكة
في أحلام الموتى المخذولة
في ياقات الفرح العابر والغابر
أراك

*
في امتداد الحنين بين الشهيق والزفير
في الدمع المولع بالجمر
والنار المستعرة في الصدر
وفي أظافر الرؤيا المشتغلة بالحفر
أراك
*
في فتات الخبز
في كبد عصفور جائع
في الأجهزة الخرساء التي تعتق اليتم
في البريد المكتحل بالرفض
في مسامات المخيلة الطفلة المتفننة في رسم الأكواخ والثلج
أراك

*
في الكتب الصفراء
في رائحة الدم والندم
في لظى الأسرّة المفروشة بالشوك
في الضلوع المتكسّرة
في الشموع المترمّدة من الضوء
في الرئة المترملة من رائحة الحنين
أراك

*
في سيرة الدفاتر المفتونة بالتدوين الخاطف
والعذابات الهشة
في مقتنيات الروح الباهظة اللوعة
في مدارات العجز عن الصراخ
في الشق الأول من الليل
والشق الأخير للصبح
أراك
*
في الطرقات المكتنزة برائحة الإطارات والأجساد
في الفراغ الموصل بين الحقيقة والحلم
في اللهاث الفَزِع، والكوابيس المتخثّرة
في الصمت الحاد، والنشيج المكتوم
أراك
*
في اللهفة المتحاملة على الشوق
في الطيّب من الدمع والخبيث من الحزن
في الشوق المستعر والعشق الدامي
في الموت المتربّّص والهجر المتعالي
أراك
*
في الكذب المتجالد
والادعاءات الكاذبة
في الكبد المهترئة
والعين المغرورقة بالماء والشجن
أراك
*
في الاحتياجات المتكررة للتفيؤ تحت ظلال كلمة يابسة
في الموغل من الجراح والسطحي من الأمنيات
في اللامكان واللازمان
- بالبصيرة الحادة، والبصر الذي خذله الضوء -
في كل الأشياء أراك



رقصة الموت

تعال لنرقص
سنرقص آخر رقصة للقلب
وأول رقصة للموت 
كقلبين مشلولين
سنرقص
كحلم مذبوح على كرسيّ هزّاز
سنرقص
كوهج عجوز على كرسي متحرك
لا يقوى على مغادرة مساحاته المنذور لها من قبل طاقات الرؤيا الناقصة
ويحلم بالعبث الجسيمِ
سنرقص
*

سنكون دافئين ربما
وربما سنحترق لنبعث الدفء لكل من يحتاجه
وربما سنحتاط له، كي لا نشتعل إلا في آخر موت
سنبكي ونحن نرقص
ليشعر الآخرون باحتياجنا للرقص وطاقاته
لدرء الموت للحظات عن أرواحنا
*
مرّر كلماتك أو أصابعك المتحدثة ببلاغة تحت أوتار الكفن
 دغدغْ منسوب الوجع تارة
واقبضْ على شفرات التعب لتصير مداها الجارح تارة أخرى
وأنا سأستطيل تارة بالفرح، وأتقلّص بالحزن تارة أخرى
سأستعر تارة
وأهمد تارة أخرى
لنسرع الخطوة ونبطئُها في ذات الوقت
 لنذوب في وخز الحركة والسكون معا
 سنتحرّك في اتجاه الروح تماما
لأنك الوحيد الذي يعرف لغتها
وتعرّي سوادها في ألوانك
* 

لا تبكِ
دعني وحدي أبكي
شفّر وجعكَ ليدخل من أوسع بابٍ للقلب
فالدمع المحبوس يقتلني أبكر
لا تشربْ دمعي المالح؛ كي لا يغريك بالعودة ل
وعند احتدام الحزن، ارقص على أطراف قلبك بحذر
ثم تطاول في اللحن
وزّعه بعناية على أرواح غفل، أو على أرواح جامدة،
 أو على أرواح تجهل معنى الدوار
 أو على أرواح تحنّ إليه، إذ فقدته في لعبة قدرية عتيقة
* 

ببراعة راقص محترف
ابدأ بالحركة المتأنية والمتخاطرة كحس شهي
علّم الروح فناء الأجزاء بكلها في تناغم ثرّ وخاص
 وفي تداعٍ مسرفٍ في البوح والدفء؛
 افتح للروح كل مغالق الوقت
 حرّك ينابيعك في اتجاه العطش تماما
 نبّه منابع الحس
 دغدغ مكامن الشعور
 اُلمس الجسد لينتج دفئا قليلا
ما يلبث أن يشعل حرائق الروح/الغابة التي تستعر
فلا يوقفها مدٌ أو ماء

*
تحرّك في الرقصة الخالدة بتدرج محترف من البطء، حتى السرعة، حتى الدوار
 لا تتعب من الحركة "للأمام/للخلف" .. "لليمين/لليسار"
دع كل من يرانا يشعر بالدوار الأوّل، وبالنشوة الأولى، والفرح الأول
أعِدْ ترتيب الموتى في دفاتري
وأعِدْ حسابات النبض في روحي
وأعِدْ دمج الروح فيك، لتصبح أنت فقط
 فترتفع فيها سخونة الحمى، وأرتفع في الرقصة للهذيان
"للأمام/للخلف"
"لليمين/لليسار"
*

خدّر الحزن المترمل على حافة السواد
ثم انفخْ فيه ليتطاير فينيقه الملعون باتجاهك فقط
وحين تتيقن أن الموت صار في اللب تماما
 لا تذهب
تصيّر آلة حادة رباعية الجهات
ضاعفْ الحركة
"للأمام/للخلف"
"لليمين/لليسار"
كي تتخبط المدية بلا بوصلة
تشرّخ أجزاء الروح المهترئة بعشوائية
ليسيل الدم الدافئ
ويغرق الروح التي ستئن
 من أربع جهات
 وعشر زوايا
 وألف جرح
*

هناك تماما
أوقف الحركة ببطء
ورويدا رويدا تهيأ لتزج الروح خارجك ببرود ملعون
تماما كالدخول الأوّل
وليس بعد فترة طويلة منه أيضا
انفتحْ على أوسعك كباب خشبي قديم
لا يعلق به ما يخرج من بوابته
إلا كصرير حنين
انفتح لترمي الروح خارجك ببساطة القسوة
 وبقسوة البساطة
اتركْها ثقيلة بجراحها
لا تتمنى أن تواصلَ الرقصة
كي لا تسجد على أرجل الكرسي الخشبية
ليلّعق الموت لعاب انتصاره
 وهو يبتلعني بنهم
فقط انظر من أعلى طاقات الفرح
 واندفع في غيابك للأمام
ثم إلى آخر مساحاته في الخلف
اندغم مع الموسيقى وقهقهة اللهاث
وأنا سأتحد مع الغناء المنتشر
 كي لا تسمع الأنين
وحين نسقط في لذة الدوار، وحلم الدفء
سنواصل الرقص بحيادية تامة
ونحن ننفخ ما في صدورنا من هواء
لننفض الأرواح كتاريخ غبار عابر
وسنخبئ الأغنيات في جيوبِنا
كي لا نشعر بالوحشة في أوّل ليلة
و بذات الحركة الأولى
و بذات الطقس
وبذات الهيئة واليقين
سنكرر الحركة:
للأمام/للخلف
لليمن / للشمال
لليلة أخرى كاملة الوجع أيضا
سنمْتص الدفء  كله من أجسادنا
ثم سنقذفها جافة إلا من الدمع
وحين سننكسر ككرسي بأرجل خشبية
سنبكى كثيرا
ولآخر مرة
ولكنا لن نبكى الفقد هذه المرة
 ولكن سنبكى الهزيمة
وسنحلم أن يغري أحدنا الغابة يوما
لتمنحه غصنا أخضر كي يسند كرسيّه العظيم
ليعاود لعبة الرقص في طقس آخر
مع ظل آخر
"للأمام / للخلف"
"لليمين/ للشمال"



بذخ النكوص

كل المساحات المأهولة بالنرجس
 نفضتْ بياضها منذ حزن ونصف
فلماذا تجئ الآن من آخر الحلم
ممتطيا عنق جوادك الأسود
مفتعلا دور الفارس
الذي جاء ليرمم خيبات العمر؟
لماذا تناور المساحات المغلّقة
بمتاريس اللغة المثقوبة بالحنين
وتمنّي السحب الداكنة بالقمر الورديّ
وهي الثقيلة بما يكفي؟
*

صه
السماء لن تخضّب قدميْها بالرعب لبكاء قلب وحيد
ولن تضع مراودها المعدّة سلفا، لهرق بقايا الدمع
في صناديق الفرح الزرقاء
ولن تسعف السهاد المشغول برموش الأمهات المخضّلة بالموت المراوغ
ولن تزأر الريح أكثر
ولن ترتعش السنابل أكثر
 ولن يتمدد الوله في مرايا الرئة المعتّقة بالسم أكثر
ولن تتشاقى زهور الجسد أكثر
لتخبر العابرين عن رائحة عبأتْها في جيوب قوس قزح
ليدوّخهم الحنين
ولن تشهق الروح كما حين ارتجف الجسد إذ فارقتْه
فقد فقَد الحلم أجنحته في سماوات العدم منذ عمر ونيف
*

صه
الزهور المجففّة نكاية الطبيعة بالموت
والأحلام الجاهزة ثنائيات العمر الفارغ
والعيد يخبئ نجومه بزيفها الملوّن؛
ليهبها للحبارى؛ كي تتعلم رقصة الظهيرة الجافة
والمساحات الحالكة تصلح لرسم خرائط الغياب بالدمع المقطّر فقط
والغربة تخرق الشرايين المتّصلة بالقلب تماما؛
لتنزف صديدها من الثياب الملونة

*
صه
رائحة الموتى تعطّر العنقاء بما تبقى منها في آخر أدوار الآلهة
والدروب المشلولة، بعكازاتها الواهية، منكفئة على حزنها
تعدّ خبز الحنين لمن لا يأتي
والضحكة المسلولة الخصر؛ مثقوبة الرئة منذ وجع ونصف
والأغنية الطازجة الرغبة، أفرغت شهوتها في مقامات الحزن اللعينة؛ لتؤنس أشباح الليالي المستترة خلف ملاءاتها البيضاء
والغافة العجوز، لا تملك أظافر لتحفر في صدر ظلها مساحة لقلب وحيد
ولا تملك حلوى تطعمها للعصافير التي ستراودها عما تبقى من شبق الحكايات
ولا تملك شَعرا كثيفا تغطّي به النخلات الصغيرة عند حوافها كي تمنعها من الليل حين يراودها عن ظلها
حين يشرئب خمرها المعتّق بين جنباتها الناضجة الشهوة

*
أيها الذي جاء كالغياب، ممتلئا بما ليس هنا
حالما كالوحشة بالأنس
لننفض الآن غبار الأشياء الصدئة من الرئة اليتيمة
ولنعبر الأحلام
ولنأذن أن تعبرنا؛ خفيفة الرغبات والخطى
منزوعة الدهشة كريشة نورس أنيق سقطتْ سهْوا في ذاكرة البحر
غائبة اللون شحيحة التجسّد، كغابة ورس عند انقضاء الخريف
مبهوتة الروح كعاشقة تُزفّ غدرا إلى الموت
لنكفكف بقايا أيامنا
ونكتحل بحسرة الليل إذا يقضي وحيدا
فكل شيء غادر قبل غربة ونيف
*

ليس الآن إلا الليل
يخلع علينا عباءات الوجد المتخثّر
ويعمّد جراحنا بالملح
وليس إلا الحزن
يضمّد الأيدي التي تساقطت أصابعها من شدّة الوله
ويفتح في صدر اللغة نوافذ كي تنفث سلّها الملعون
وليس إلا الشعر يرتدى جبة امرئ القيس المسمومة
 ويحتفي بالخلود بين يديّ قصيدة يتيمة
 كتبها عاشق ذات عبور
مرَّ وتاه
*

لنسمّي الآن
لنحوقل طويلا .. كثيرا
كي تتشد سماوات السكينة عند امتداد الشهقة
وتزغرد الروح في بهجة الترقّي
فقد أضحت من زمن بعيد
 قربان الوجع
وشاهدة الحنين




2.مسودات الغرق



تشبث القشة بالماء


يا إلهي
كل شيء كان  قبل أن أهمّ بفيض العبور
 رويدك أي هذا الجزع
ريثَ انتبه
ليس إلا قليلا
وأن يسقط الوهج عند حافرة الصمت
سأصمت
لأبحث عني
لأبحث عنه
ما إلا موت يبارك قياماتي
 ما إلا اشتهاءات المساء
 وجرحي الأدرد

*
كانت السماء غبارا
ولم أنتبه
وقلبك الذي أيقظ الأغنيات أخيرا
لم أنتبه
 خانتني سجدة للخرافة
 خانني وهم العبور
خانني موتاي
 وخنت قواي التي نبهتْ نبعي
 الجفاف .. الجفاف
*

كل ما كنت أفعله
 أنني كنت أبحث لصدري عن هواء
 أصرخ لألملم صوتي المزدرد في حباله
 لأطلقه بحجم صرخة تغرق الكون في ضجيج لا يفنى
 أقسّم الفراغ بيني وبيني بالتساوي
 أفتح في صدري دربا للدهشة وللعصافير
 ولا متسع
فكل الوجوه خارج الأقنعة عراء
 وليس إلا غبار يشتهي قلب جرار الفتنة على عسل لا يجود
 وقوس أخضر عند سرّة المنتهى
*

رويدا يا الله
كل هذا الضوء يرعب  عتمة رأسي
 يقصي موائدي عن دروب المشيئة
 كل هذا الضجيج المنضّد يرعب كائنات الوسن
 يدقّ طبول العواء داخلي
رفقا بكل هذي الانحناءات الطويلة
 فسيزيف بصخرتِه الثقيلة التي تغتال شبق المسافات بلمسة
 يعبرني حادا وحزينا
 وأنا وحدي
 الموت خفيفا يتخلّلني
 يعطّر دم الهواء بلهاث حميم

*
رويدا..
 فبلا قدم تصلح للانهمار
وبصوت ينهشه العويل
 تسيقظ كائنات الفجيعة في دمي
تبكي .. وأحلم

*
لن أحلم بعد الآن
 سأغضّ الطرف عن قِبلة للصلاة
 سأستقبل وجدا مخدلج الساقين
و أهمي انتظارا
 بكاءا
عويــل




أرملة الماء

وحدي هنا
وحدي هناك
ما من متكأ
أسند ظهري على حائط الوهم
ترفعني الظلال إلى الضلال
يأخذني الضوء للعتمة
فتعمدني بالسحيق من العدم
فأتمدد
تشرق روحي بالجهل العظيم
وأتلمس كأعمى نتوءات الحقيقة
تعرجات اليقين
شروخ البرازخ
حثيث الضوء
فحيح التراتيل
وأبكي
فتنتخبني المعرفة لضلالها

*
مولعة باللب
أمد يدي
أحلم أن أقطف ثمار البكارة الأولى
لأسمّي الأشياء بأسمائها
وأن أطعن الماء كسفينة بلا شراع
وأن أفرد أجنحتي كطائر قرمزي بحجم قبضة يد
لكن يدي ترتعش
وأجنحتي زغب لا يستطيل
*
وحدي
بهاق أصاب المرايا
وخبل الرؤية أشكله وهج العارفين
والرازحون تحت ثقل القيود
ما منحوني لذة العرفان
وبهرجة الضمير الحر
وما رتقوا ثقوبي الكثيرة
وما أيقنوا بهجة السحر في مديتي
إذ تذبحني التفاصيل
وما أيقظوا صوت الحقيقة في غيابي
فغادرتُهم غير مطمئنة للصلاة!
*
وحدي
من نورك إلى ظلمتك
من بياضك إلى سوادك
من مجاهلك إلى فحواك
من يديك إلى يديك
منك إليك
*
ثقيلة أعدو
خفيفة أعود
وجع يغادر مراميه
ظل متعرّج الحواف
دمعة مستقرة في المستقر
فراغ بحجم الأزل
وامتلاء بلون الأبد
*
وحدي
كلي صرير تأججه ضاريات الدروب
أزيز كحد الْتقاء لوحين من زجاج الواجهات الأنيقة
الذاكرة تتآكل كالكتب القديمة
والصمت يعرّش على الروح كالغائبين
قماطي ماء
وكفني حليب
ورحلتي مولعة بالتمرئي

ذاهبة في النحيب
وملغومة خطواتي بارتكاسات الأشياء في قعرها
وبالماوراء
*

قالت لي السماء ذات سخط
ما ودعك كل هذا الفناء
فلك ما تناثر من اليتم
وما استقر من الغي في كبد اللغات
وما تهجّد في المسرى من وهن
وما تناثر من ولهٍ على الطرقات

*
مذ كنت وجرحي عتيق
وصوتي عتيق
وأمي تخيط جراحي إلى حزنها
أخواتي شربن الماء في قصعتي
وأخوتي استلوا مراجيح الطفولة، وورس الضفائر من عتمة شعري، وغابوا
وما كان خنجرا ما لدي!
وصويحبات الدرب ما أفرجن عن ضحكات الغروب إليّ
وما أهدين قلبي صدار الهوى
فصرت وحدي إلى المنتهى

*
صادر أبي من شفتيّ
حروف الحنين والهسهسة
وقال شقاء
وما أدركت ذاك المعنى؛ حتى تبسم
ونامت يداه على يديَّ
صرخت يا أبي " وكان لا يزال يبتسم"
أريد ذنوبي الصغيرة
أريد وجهي
وصوت الجارة في القبر
و"الغافة" العجوز التي كنت أبكي إليها
وعمري القديم
لكن العجوز التي قرأت كفي بكت
وأنا شربت دموعي ونمت
 كي لا تأكلني الفضيحة
*
وحدي
ذاكرتي المهترئة مقبرة لا تفتح أبوابها
وموتاها صحبي الطيبون
يرافقونني كل صباح إلى الشاطئ لنمشي قليلا
ونشرب قهوة في المساء
والصداع رفيق عمري الحنون
وتصدعات الغياب مزارات روحي
وأضرحتي صلاة السلام
*

وحدي
طقوسي لا تبدّل أثوابها في الفصول
ووجهي الغريب غريب
العزلة تأكل من صحني فأصمت
ونسوة في المدينة يأكلن لحمي، ويتجشأن القصائد
ووحدي أحتسي شهوة الفراغ العظيم
وأكتب أسرار عمري المسافر في عتمته
وحزني الذي أطمئن إليه
كوجه حبيب بعيد
أو أيقونة للصلاة




ذاكرة الظمأ

وحيدة تمر على جرحها
تتلمظ آلامه وتبتسم
عكازها لم يعد قادرا على رفع منسوب العجز في دمها
هرول مع المارة في نزق المعجزات
غاب في الضباب كيد أصابها البهاق
فلم تعد صالحة للاتكاء
*
وحيدة تمر على وجهها
المرايا أصابها خبل الرؤيا في الظلام
والصويحبات يتأملن الشعيرات البيض بوجل
وعلب المكياج صارت دائخة من شدة الهلع
*
وحيدة تمر على حزنها
لم يعد شريط ذكرياتها قادرا على المرور أمام عينيها
 فقد باتتا مغمضتين من شدة الدمع
ولم تعد تلك الوجوه قادرة على إثارة حنقها
فلم يعد عبورها يستثير داخلها سوى الشفقة 
والصمت هو الخيار الأصعب؛ إذ يغيب عازف الناي 
ويكثر الحواة

*
الفراغ الممتد بينها وبينها
أصبح بحجم سحابة تستبق الكارثة
وحكاية الليل الغامقة الفرح
أصبحت بلون كذبة الصبح البيضاء
أصابعها متخدّرة من شدة اللهفة إذ تروم الكتابة
واللغة متخثّرة على فمها كجرح قديم
من سيشارك الليل عواءه في دمها
إذ تخضرّ جنازات الفرح
ومن سيعمّد الوجوه الزرقاء بالبلل
إذ تشتهى ما تيسر من غناء الغجر
ومن رائحة البحر
ومن البكاء
ومن سيناور الملكات عن طيوف الزهر
والكلمات عن رائحة الحنين
إذ يتصيّر اللدغ ذاكرة للرؤى
وتغدو الأشعار تراتيلَ الغياب
والشموع مفقوءة الأعين حين الصلاة

*
وحيدة تمر على موتها
الجنازات أفرغت جثثها في لجج الفراغ
والعشاق خانوا حبيباتهم على مقربة من مخادعهن
والشعر خان الدماء إذ حجت إليه أغنيات الفناء
وهي لا تزال تغازل صور المرايا
وتنسج الكلمات
وتتصفح بقع الضوء على خد الليل
وتشم الرائحة الكريهة في كبد الكتب
وتسكر بها
وهذا أوجع ما قد تفعله امرأة وحيدة في الليل



تفاصيل العطش

ها أنا
صوت اللغات المؤنث
التاء المربوطة بالشرف
نون القبيلة
تواريخ الجهل والعار
ها أخلع الخلاخل والأساور
والقلادات اللعينة
فلها ذاكرة القيد والسجان
وها أستل صوتي من غمد الخرس وأصرخ
أنا ..أنا
حرة انسللت من رحم أمي
 كسلاسة الموال
كسلالة الطيف
كسيوف الرجال
كلي لي
ضحكتي لي
مزمار الغنج في صوتي
بحتي
واعتراضي
عقلي
جسدي .. لي
ولي ما أحب، ومن أحب
قلبي لي
لغتي لي
بصري.. وبصيرتي
حنث يميني
ولثغتي لي
ولي رفعة الأجنحة
وغناء اليمامات
وهديل الموج

*

أنا أنا .. وأنت أنت
لست ريشة في جناحك
ولست كنزك المخبأ في قلعة الجن
وما تبقى من الحكايات القديمة
لك
وللتاريخ شأوها الرث

*

لي التفاصيل الصغيرة
الماء والمرآة
الحلم والزينة
والزهرة البيضاء على جانب شعري
والكحل والرغبة
وجهي لي
رقصتي ليلة رأس السنة
الناي القديم
والهواء يحرك ستائر الليل
يغازل شرفة الجيران
مفرش الدانتيل
كنزة الصوف التي حكتها بأصابعي
إبرة "الكوروشيه" التي سأصنع منها جوربا لصغيري
والحساء الساخن ليدفء الصمت حين يندس بيننا
أصابعي لي
وصدى ثقب يشاغل الريح عن رعشة الأشرعة

*
كل التفاصيل لي
فخذ منها ما شئت
وأترك حريتي عند مشجب الباب
لأرتديها حين أهم بالخروج وحيدة
لأرفع صوتي بالغناء
 وأنا أعانق البحر
أو ألتحف صمتى
 وأنا أبكي تحت المطر




اشتباهات الفتنة


كأنها أنا
جثة تغسل صبوتها في وجه الريح
تغزل شامةً في جسد دميتها 
وتعاود الاشتعال
تهجر مفاتنها القديمة كخيمة بدوى تطاول على الصحراء
وتحني صوتها برنين الخرافات وتمضي

*
هي ليست أنا
تعددت أشكال بهجتها كرؤوس ناتئة من أضرحة الحقيقة
تتمطى بدلال على قارعة النحيب حين يعتريها الوهن
تتجسد آلهة بذيل طويل ورأس فارغ الانتماء
تتدلى كدالية تنتظر لذة التكوين خمرا
لتطفو رغوتها على أجساد الرغبات عشقا نيئا

*
كأنها أنا
بيننا فسحة مثخنة بطعنات الوله المستدير على الذاكرة
بيننا غصة حادة كالنهايات الملوّنة الأطراف
بيننا التحام المعاني بالمفردات العقيمة
وحين الوقت خواتم الهلاك
وصدى ضحكة ملوّثة بمؤامرات سماسرة الوهم
تصبح كأنها ليست أنا

*
كأنها أنا
سدرة الليل المترملة من أصوات العصافير وروائح المطر
المتهدلة الأفنان في منتصف الغناء 
جثة السديم الغارقة في براثن الحلك
برقع الحلم بفتحتين عند منافذ الصمت
تبيع على قارعة الوجد ما تبقى من سهادها الملعون
وتقامر الليل بفناجين القهوة الدائرة
بالسخام المقتدِّ من جزع مسربل بالحنين
من شهوة المغالاة في ردم الشقوق الكثيرة في صدر ضيق كالمطارات اللعينة

*
كأنها ليست أنا
تسكن عند حواف البهجة الخفية
تبتلع وحشتها أصداء الصوت المكتظ بالحشرجات
المكتنز بالحكايات الشهية
والمزاليج المثقلة برائحة اللمس على أجساد لا تتسع
وبالرؤى المظلمة كامتداد الخطيئة من فجر أنوثتها
وحتى آخر صرخات الظلم في ذاكرة ألف ليلة وليلة
في مداراتها تتضخم الشهقات باتجاه المدى
وعلى حد اللمس في جسد ميت تتناثر الآهات
من حدقات الروح المنفتحة
 كترانيمٍ للوجع الأثيم
ومن صبابات الفتنة في برازخها الشهية
 يتسرب ملح الغوايات
ينسكب الضوء
يعرّى مفاتن الأشياء الخارجة على القبح بسطوة الصرخة الأولى
يعري الفراغات المزهوّة بالخواء
يعري فجاجة الألوان في رمادية التاريخ
والأقنعة المعكوسة الفتحات
وارتعاشات الشهيق في ارتداد الصدى
 بـ (لااااااااااا)

 *
كأنها أنا
تُجمد الماء في شرايين القلب
كي تضعه في كؤوس المشيئة
كي لا تثقل يد الرب بالغياب الكثير
حين تتراءى جثث الغواني الساكنات في شرفات دمه
المطلات على أيامها كلما أوقدت له سراج الليل
وتضحك
تمضغ الحزن على عجل
 كي لا يعاجلها البكاء
فطقوس الدمع أشهى من لذة عابرة

*

كأنها ليست أنا
حين يتوضأ من دمها كي يصلي الغياب
وكالبحر يزأر كلما أسرجت أشرعتها
وعادت 
فلا تموت إلا قليلا
ترتب حدائق عمرها في مقلتيه وتغفو
وتقتد ما تبقى من سلامٍ في شرفة العمر العتيقة
وتبتكر الزوايا
تضع شمعة في رواق القلب كيما يهتدي
وأخرى على زغب يده
كي يستدل عليه حزنها

*
كأنها ليست أنا
الحكايات نبت لها وطن
والجثة أطلقت رعشتها غير مطمئنة للصلاة
ياللحكايات!
دواليب الفراغ أكملت حفلة الرقص المقدّس
والعدم انبعاث الحضور العظيم
ياللعدمّ!
حراشف الليل تدلل جدر السلاحف باشتهاء النبض
ترسم دوائر شهوتها على استدارات المراجيح الملفّعة بالخدر
وتعلن فيض الانكسارات اللعينة
فمن للروح؟
كي لا تبدو أكثر انقساما في دورانها
حول ذاكرة الرمل
وهذياناتها المدنّسة بارتقاء الخواء
من للروح في سيلانها الشهي نحو الألم
في احتراقاتها المتصاعدة في حرقة الوعي
 ولظى الأسئلة
من للمخالب تمد أخاديدها بعنف لذيذ
تحفر مسارب الفرح بوحشية عاشق
وتؤرخ للعشق العظيم كي يعتّق لهفته
 ويدنو من الله

*
كأنها ليست أنا
تسرق كل التفاصيل من سرّة الليل
تسردها لعميان الرواة
وتشرح الأسرار حين تفيض
وحتى المنتهي تعانق  صوت الإله
تلوّن غنته بالبكاء
تدشّن في الدفاتر وقع حلم أعرج
يترك أثر انكسار خطوته في الظل
حين كان للقمر شهوة السقوط
وللبحر حمى الاغتسال
تفصّل الكلام بحذر على جسد الضوء
وتسمل عيون المزاليج كي لا تبوح
وتسفح دم اللغة
وتشتد في اشتهاء سكاكين الغناء
كأنها أنا
كأنها ليست أنا


نورسة الملح

ها أقف على ناصية الفراغ
أنا وريثة كل الخطايا
أحكي للقلق حكايتي بأقراطها الطويلة
أحكي عن الوجع الرابض في عتمة الروح
عن اللون البني المتصدر لأدوات "مكياجي"
عن معصم ورثته عن جدتي الحبيبة
استعمله أبي ليكون قيدي الأخير
عن شراع جدي الذي أورثه أخي الأصغر
فجعلني الأخير صاريته
أحكي عن النخلة التي ورثتُ شموخها
ورطبها الذي يستعذبه العابرون
كلما تبادر لجنونهم هز الجذع
أحكي عن ذاكرة الحكايات
والليل المستطيل الرغبة، على عتبات الحزن كياسمينة شقية
أحكي عن البحر الذي خانني لحظة اكتمال القمر
 وسال حتى المد
عن قوافل المدن الزاخرة بالضياع
التي لا تغريني
عن رائحة اللبان التي تستفزّ دروب السكينة في عمري
عن السجان الأقصر من لغتي
وعن الرجل الشرقي الذي لم يحب جلوسي المبكر على شرفات العمر لأعد النجوم
وأشرب قهوة محلاة بالهيل والزعفران
وعن آخرَ كان أوسع من مداي فغادرني
غير مطمئن للفجيعة
عن "الخنساء" و"ولادة" تقفان على شواطئ الذاكرة
تلوحان للبحارة والمسافرين عند بحر عُمان
وتعقدان الهدنة مع الليل كلما قرر أن يبيع أنثى؛ جارية للسهاد
وأستأنف النص، الذي أسميه
كل فقد "نصي الأخير".




3.من الماء إلى الماء




أغنية الماء الحزينة

مذ جئنا؛ ونحن نفتش في خرج الزمن عن عثرات أخرى
 عن جهات لم يصبها العقم
عن كائنات نتعثر بها، فنتحسس أنها ليست ناقصة
 كائناتٌ ناضجة بالصمت
 مستوية بالحزن
 لا يلزمها الكثير من الوجع لتعري قامة الأنبياء
من جبّة النبل المصنوع
 وأقدام الفراعنة من أحذية البطش الرخيصة
نفتش عن أصوات لها رنين الغُنّة؛ الذي يشبه رنين الحجل لبنات العيد
 أصوات حين نوسّدها صمت الوحشة ليلا
 تزهر على وسائدنا أشجارا من اللوز والحناء
 تثمر كشجر الكلام قصائدَ تخيط المعاني
وتترك في ياقتها فراغا لحبيب قادم
نفتش عن ظلال لسؤال يحوم كطائر البوم في الحناجر
التي لفظتْ تفاحاتها عند أول ناصية للشك
وصلّت للحزن نافلة
نفتش عن أوطان لا تحمل بنا خارج الرحم
أوطان لا تشبه خواء الحقائب بعد السفر
أوطان مالحة لها طعم يشبه الشمس
ورائحة تشبه الخبز قبل اكتحال المشيئة بالضوء
أوطان ثرثارة بالفتنة
 بلا أشرطة حديدية ترصّ على أرواحنا
 وتحدّد نبض قلوبِنا
 وتقسّط أحلامنا على ما لا يأتي
نفتش عن رفاق لا يكبرون
 وأحلام لا تشيخ
 وضحكات لا تهرم
  وحب لا يفنى
 وقلوب لا يرهقها الحنين
نفتش عن خيبات بلا ذاكرة
وانكسارات بلا أجنحة
وهزائم بلا أرحام
 عن حزن لا يصلح إلا للرسم أو للكتابة
 أو لملئ شقوق الزمن بصدى لذة مباركة 
نفتش عن موت أنيق، إن كان لابد من الموت
 وعن حزن مراوغ، إن كان لابد من الحزن
 و عن غربة قدسية، إن كان لابد من الغربة
 و عن أوطان قلوب، إن كان لابد من الأوطان
عن ندبة نتحسسها بلا ذاكرة، إن كان لابد من الجروح
نفتش عن بهجة تذرو نفافها في أيقونات العمر الطويل
المتوزّع حنينا وغربة



قوارب من زجاج

إلى كل مبدع مختلف في عالم متشابه

أرواح تتحلل
تشتهي الإحلال
أرواح تزهر فيها كل مشاتل الخيبات والانكسارات والوجع
والحضور المخاتل للأشياء
إذ تدخل لهذا العالم من الأبواب الخلفية للجرح
تدخل متناومة عن الرعب الطافي
 على وجوه الكائنات الآسنة
تدخل بكاملها المزنّر بالهشاشة
تدخل محاصرة بالتربص من أن تلامس الفرح أو تشتهيه
مرعوبة من أن تثمر أرواحها في لحظة وهن
قافية للعطر، مختلطة بالحنين
أرواح تشتهي أن تلثم التراب
وأن تمرّغ وجوهها في حكايات السديم الباهت

*  
تدخل مشبّعة برائحة التفاصيل الموشومة بكحل يخذل الموت ويخذل العشق
تتمسّح بالزوايا
وتمسّد رقبة الوقت
وتغازل صوت عصفور على ناصية الجرح
بهتتْ روحه من شدة الوجع
وبينها وبينها طيوف كائنات لا تلد ولا تولد
لا ملائكة و لا أشباح
لا غابات من الياسمين
 ولاسماوات من الغيم
قبور مفتوحة للصلاة
خشوع باهت من الإعياء
طقوس مغرية بالسكينة والبكاء

*
متعبة تدخل
لا تتقن فنون الدفن
أو مراسيم التأبين
ولا تقوى على لملمة رائحة بحجم قرون من الوله
 أو تحنيط الدفء المتسرّب عميقا كشلالات من الأمل
أو ترميم الوجوه من ندبة أو شامة
 تشكّل علامة فارقة كخرزة زرقاء في جيد سماء عالية
تلامس لمس اليد الضجر المتربع فوق ضجيج القلوب
 بلا دهشة محفّزة على القيامات تدخل
متعبة من التعب
حزينة على الحزن
 حد الشكوى واللاشكوى
 تدّعي الحزن
وليست من الأشقياء
ولا من الأولياء
ولا غرابات بيْن
 ولا بوم نحس
ربما كانت- كما شاءت أو كما شاءت لها المشيئة-
كائنات خاصة
 أرواح تشكلتْ أعشاشا للعتمة
 ومهدا للصلوات
رؤوس لا تمدّ يدها لحواف الكون
 كي تشعل سراجات البهجة، أو كي تسرق الضوء
قلوب نخرها الود .. وأفسدها الحنين
 قلوب حين تلمح سفن الفرح المنفوخة الأشرعة
 تتقدم بسرعة براق
 وحين تلوّح فلول الضوء تنحسر كموجة
قلوب لا يخطئها الحدس
 ولا تتقن ممارسة سفح الأشياء كسائل نتن
ولا تتقن الصراخ في بهو الكون المتّسخ بالضجيج والصخب
 ولا تتقن الكركرة على مدّ الوجع
قلوب تعلمتْ بحكمة بحار عتيق
 كيف تفصّل صمتها بحجم قامة الريح القادمة من مجاهل الغيب.
 وكيف تربك الشك المزروع في خاصرة نخلة بأمنية معطرة بالرحمة.
 وكيف تصوغ الوجع قلادات من فتنة
وكيف تقامر الحلم بشعرة بيضاء، في مفرق سماوات عالية
 وكيف تلوّح بصمت
لتموت واقفة.


غانية الماء

إلى كل امرأة عربية، كاملة الحلم والوعي



حورية الجحيم
بنت نعش
المرتعشة بالغياب
الحانّة حنين (بزل مالك)
شهقة السلام المراوغ كالكلام
والذاكرة الحالكة كالقيد
سيدة الحضور المباغت
والضحكة المشنوقة النهايات
المدية التي بلا قبضة جارحة
التي أبدا تدس ملامح خيبتها في ثنايا الدمع كي تدلل صمتها
وتبكي، وهي تغمز للشجن الخفي
اشششششش "كل هذا سيمضي"!

*
طفلة الصحراء
ذاكرة المطر
التي تحيا على حد سيف مثلّم
وتسكن خارج أثواب بهجتها
وترقص خارج رنين حُليّ جدتها الفضية
وتنتعل الفوضى خارج ذاكرة أبٍ مرصوفة بالطين
وتستطيل بخفة خارج رغبات الكائن المقززة
الذي احتجزها في النقص
وقيدها بالقصور

*
أنثى المفازات
 غابة التيه
جسد يشبه الحزن
ذاكرة فارغة الانتماء تماما
للقبيلة
لمجتمعات الماء والملح
لأحزاب الغواية
لجماعات الحريات الزائفة
للأيدلوجيات
للتنظيرات
لسيدات الأرداف الثقيلة
للعبايات
للزوجات المطيعات
والعاشاقات المراهقات
والبائعات الزاهدات
فارغة الانتماء تماما
تدير ظهرها لكل شيء
للحكايات الكثيرة
لصوت الراوي
وللبغبغاوات
وللعازفين على مدِّ الجرح أسطواناتهم المشروخة
للقرف اللامع في عينين كلما استدار الهواء
أو عبرت اللذة بكعب عال
وفقط تتجاوز ذاتها كثيرا
عند عاشق
يعتز بشرقيته الباهتة

*
حواء الشرق
سيدة المرايا المتشظية
التي تحاور الفراغ بوهن
حين تجز شلالات العجز أطراف أنوثتها
وتكبل تيارات الرغبة أصوات العصافير في حنجرتها
وهي تستعذب الغناء
أشياء الوقت تعبر بها نحوها فقط
فتستأنف الفصل الأخير من الصمت
وتعبر أروقة المباغتة
وتجعل الغيابات وطن

*
مذ جاءت وهي تدرك أن القلوب آبار معتقة بالخديعة
وغابات الرؤيا أنياب وحش وديع يسكن الحنايا
ويرقبها
وجثث الفراغ سنابل فرح متدلية من سماوات السكينة
بينها وبين الجمع
والحزن نصل يطوّق الخيانات القصيرة في ضحكتها السافرة
ويسافر بها للفراغ

*
في مدٍ من الحرقة والتيه
تحيا
وفي ذاكرة من العدم المتلفعة بالسهاد والقلق
تتساءل أبدا
كيف نعبر الكارثة/الحياة
وكل شي مؤجل كالأحلام
متأجج كالشجن
مخبوء كالعار؟
وكل شيء في حياة أنثى الشرق يؤثث الروح بالخراب؟
كيف نتجاوز هشاشة الكائنات الضيقة كالأزقة القديمة
والسفر جنحة الأجنحة
والدروب خرائط النعش
ومتى نفيق من هذا الرقاد الطويل؟

*
في هامش ضيق تجلس أبدا
تعصر كرمة الوجد، كلما هبت عواصف السماء
وتصلي
تصطفي مصباحا لتقرأ ضوءها المعتم في ضوئه
وأغنية ترتب ألحانها المذبوحة في دفقها
أكلت المرايا وجهها الأخير
وكل وجوهها -المسموح لها بالحضور - مرايا
بين الفينة والفينة تمرر لسانها المالح على جرحها
 فيستفيق الحزن بهيا كالصلاة

*
فراشة تجلس على كتف الشعر فيتألّه في دمها
ويصفر المدى بوحشية في ذاكرتها
فتتراكم الأسئلة
نجت من حرائق الماء بندبة كالسراب
غافلتها اليمامات التي تهدل في دروبها بالحنين
فاستفاضت بالرؤى
عصية على شهوات اليباب
غامضة اليتم تفرد أجنحتها على بوابات المدن
وتعيد نسج الأسئلة
*
الغيوم المتجمعة عند مدخل قلبها
أبدا على وشك الهطول
ولكن الدمع المتراكم
يخذله الحزن الجاف
الذي يتدفق من مراود الماء
وعندما تتحنى الأشجار برائحة الفجر الطروب
تحاول ردم الهوة في ذاكرة الزمن الرديء
المبلل بصراخ الأقاصي بابتسامة مالحة
ولكنها تأتي غاصة بالحنين

*
تقف على خارطة الجحيم
تتخذ موقعها جيدا
وكل السبل نحو الخواء تتجه
وكل العابرين، سدنة وهم
وسماسرة للضياع النبيل
تدرك جيدا أن بين كل جسد وجسد مشنقة
وبين كل ضياع وضياع بوصلة باتجاه الفقد
وهي تبحث عنها فقط في وطن من زمانات الحزن النبيل
ولكن لا إلا العدم ذاكرة الليل الملبّد بالهزائم
والأشباح فرائس الحلم المستحيل
وخارطة الصمت التي تهب الضياع دروبها المتآكلة
والغربة التي تطرّي لهاثها بالعويل
لذا تتدرب –بإصرار- على تفصيل القبعات لذاكرة الحزن لتغيّرها كلما تطاول الدمع
ومظلات ملونة للمطر الذي لن يهطل
وأجنحة ورقية للأوطان المستحيلة
وتعبر صامتة.


حكمة البوم

في صميم هذا الصمت المنزلق نحو الهاوية
الصمت المطبق
الصمت الحافل بالمرارات والغث من الأفكار
والجراح الناتئة كالدمامل
والفرح النيئ
مجد الآفلين والقادمين
من مجاهل الغباء

*
في صميم هذا الصمت المولع بالتمرئي في مرايا العنت
والجهات المتكسّرة
الصمت المستنفر كقطيع وحشي من الأسود
الصمت المتهادي بدلال في مخيلات الشعراء
والعابث بمودة جارحة في أرواحهم

*
في صميم هذا الصمت المنْسل من مكابدات الأزمنة
ومكائد الدهر
الصمت الجبان الذي لا يقوى على مواجهة اللغة إلا بين دفتي كتاب
الصمت المتعثّر البوح في حالته المزرية في العشق أو المرض
الصمت الغبي الذي يحيل كل شيء لمعانٍ ملوّنة
كالكبرياء والعنفوان وهو بحاجة للشفقة.

*
في صميم هذا الصمت الموارب من خلف بوابات العجز والدموع والبكاءات المغلّفة.
الصمت المنسرب مع قطيع سنونوات من رحم الحلم الأزرق
والمسافر مع سرب نوارس للبعيد الأجمل
الصمت المولع بالهذيانات الغائبة والنبيلة بين يدي قماطات الحنين القديمة
الصمت الذي يدقّ بمطرقته الطويلة على رؤوس الصباحات والمساءات
بعنف وإلحاح ليستيقظ الوهم
أو ليشفّع اللغة ببقايا كلام يشبه غابة ورس عند مفترق الحكايات.
*
في صميم هذا الصمت المرتبك والمفتعل للمشاجرات والمشاحنات كطفل وحيد
الصمت الحنون كقلب أم مثقوب من كثرة الوداعات
الصمت الحكيم كجد خاض منازعات مصيرية
 انتصر فيه بالخرس العظيم
الصمت المطوّق للخيانات والانكسارات والعثرات
*
في صميم كل هذا الصمت
يتعثّر الوقت
يشتعل الموت
يبتسم المدى
وتتكاثر الأسئلة!



العزلة: رقية الحيوات السرية

الحزن ثغرة الكلام
 يسقط من بين نواجذه المضيئة بالفتنة
حين نتعثر في التبعثر الغض على مطارف ما لا يقال
وحين تكون شهوة الصمت حربة تطعن الذاكرة
ويكون السلام وهما ضائعًا بين مجازر الأحلام المتمددة على دروب العتمة الفاتنة
حينها قد يكون الأبيض الهشّ يوازي بخدر خنجرا مسافرا بدهشة للداخل
ليثبّت لون الحلكة على مداخل الأشياء بافتعال تناقض ناقص

*
أبدا
السديم يبتلع فخاخنا المفتتنة باللذّة
وغاشية تغلِّف قلوبنا المرتجفة من استنشاق علائق الرائحة المجذوذة الفرح
التي تقترف لعق ما تبقى من الحزن من جلودنا المتشققة
وموت بعكاز خشبيّ يغْمد قدميه في غربة الروح ليحقق الصرخة التي تليق بنا
فتلدنا طازجي الرعشة خارجها، فيما نجاهر الكون ببقاياها المتخثرة على جروحنا المفتوحة
ولا مساحات تستوعبنا لنتسمّى بها

*
الأشياء المبهمة ترفض أن نشْتَبِه بها، لتستضيفنا المسميات
فنمر عراة من الأسماء كالأشياء التي لا تقف
الدموع ألصق بنا لأنها تنتهي بعدما تبدأ بقليل
الذاكرة الكونيّة مثقوبة أيضا؛ لذا نتساقط من جيوبِها كالرمل
خرائط الكون صماء لا تهب أرواحنا اللامتشكلة فرجة للتشيؤ فنتداعى في الهلام.

*
أيّتها الحياة
وزّعي أحجامنا على قامتك الفارعة كالضوء
كوري صراخنا في حنجرة ناي حزين
ادفعينا مع خفقة عصفور يفنى على حد مدية إلى الأعلى
عمّدي ألسنتنا بالخرس
وأصابعنا بالجذام
دمري لهاث المشيئة عند عناق الحدس
وامنحنينا رفّة الضوء في حدقات الحقيقة
 كي لا نكون
اشطبي ما تبقى من جملة التكوين في أسفارنا المأهولة بالحنين
غرّبينا في جهات الأصابع المرتعشة
في عريّ الجهات
في المسافات المتآكلة الغناء
وزّعينا على ما تبقى منا
انتصري للقيح المتساقط من حنجرة الريح
وللمساءات المكتهلة
ولا تحاكمي الطغاة الذين ثقبوا عين السماء لتتساقط الدماء من خصور النجوم
وفقط
شردي الحنين خلفَ قضبانهم الهشة
وخيطي الودّ إلى حطام الكائنات كي تستفيق
وغادرينا ببطء
غادرينا ببطء كي تسوّي لقلوبِنا مساحة للولوج في بوتقة فراشة ناعسة
وغنَّي لنا كي لا نفيق
أو اسحقينا في براثن الغياب
لنلوّح معا للجهات
نحن الذين لا نؤمن بالنقاط 
ولا نساوم على الموت إلا بضحكة غاصة بالنحيب
احفري قبورنا بين ضلوعك
وابتلعينا لنصحو

*
أيّتها الأمّ
غنينا فمذ كنا قيثارة الأخيلة
ونايات البوح المرتعشة الامتداد تجرحنا
فاشتدي في جفل قلوبِنا وأوسعينا عشقا
مفعما برائحة الماء
فالغياب يحك ظهورنا الميْتة بلمسة مسرفة في الحنو
والحزن يقف على شرفات القدر يغازل حوريات الصمت المستلقيات في بحارنا الآسنة
هدهدينا
سنبتلع الشظايا ونجعل النظر يسيل خلف غابات السؤال
ونتشظى في جروح المساءات الممطرة
سنطل على الأفق من كوة الندوب الخبيئة
ونشهق

*
أيّتها السماء
أيّتها الجراح المشتعلة بفوضى الألم
أيّتها الوجوه المنعكسة في وجه الماء كحنين عائد من الموت على هيئته
أيّتها الخرافة
يا وجه الغيم الغافي على بياض يشبه بياض الرب
يا قرابين الرؤيا العمياء
ياحدقات الغيم الواسعة كدهشة الأطفال أمام الجوع
يا رائحة الانكسار المتسامق كنخلة في الصحراء
يا شهيق الليل المدْلهم
 المتألِّهِ بالرهْبة والشعر
حتى القصيدة وحتى البوح
يا هياكل الأحلام
يا جثث الرحيل المعمّدة بالجزع
 يا نقطة الالتقاء القارض للصدفة أعمارا من البعث
يا مسوغات الحيرة الحائرة على ينابيع العطش الشهيّ
يا رعشاتِ الماءِ
يا غرفة الرب الأثيرة
يا نافذة القدر المترعة بالعطايا
يا كؤوس العاشقين المستفيضة عن موتهم النيئ
يا زهور الموت الخرافية يهبها لأصدقائه المترفين
يا وفرة التداعي
يا غيابنا المناور كي يستطيل
رفقا بكل هذا النداء.
رفقا بكل هذا الفناء.




السر الأعظم


1.
كما تتكسر المرايا على المرايا
وكما يأكل الشغَف الشغِف
وكما ينكسر ضوء مقلة في ارتكاسات الكأس الصاعدة في حمرتها
وكما يلتمع الخاتم الفضي في فراغ الرؤوس
وكما تنشق الصورة في وجه الماء
 بين ظلين وضلعين
أو بين جهتين وذاكرة
ينكشف السر عند العرفانيين والعرافين
فتصبح المعاني أكثر انبلاجا من المجهول للمعلوم
تصبح الأشياء بلا صوت
تتبرج في الحد الفاصل بين الموت والبعث
يصبح الكلام غريبا عن قائله
 ويصبح المعنى أكثر بريقا من عين عشي لحظة العتمة
أو قلب يتيم ليلة العيد
وأكثر سطوعا من مرآتين متعانقتين عند ممرات المواربة

2.
ترتج الحقيقة كأنفاسٍ محبوسة في صدر بلا زفير
تتقدم الفكرة في مداراتها الحرجة مستديرة على ذاتها
تحاول قضم عتبات العبور نحو السر
فيخذلها الهواء
وتنتفض في بحبوحة انفراجة عصية
وبين ضرسين يحتجزان الكلام
تحت أنياب الكتمان
وفي شرفات الكشف
يرتفع الماء
ويسرف في سفك أحلامه
وفي تقسيم حصص الحنو على المحو والصحو
فيغضب الملح
ويرغي ويزبد
وتسمع للفراغ الفاصل بين القلب واللهفة
رعشة مزمار صدئ من فورة التداعي
وإغماءة أم فارقها الطيف الذي يدفئ أحلامها في الغياب
ونحيب ناقة أخذوا صغارها للذبح
وحنين صلاة بلا أناشيد ترشق الحس بالعتب

3.
الويل والثبور لذاكرة الندم
ولصولجان الملك الأخير
و لحسن التمرئي في القِلى
ولعين شفّعها القذى في فراق الحبيب
ولعتب الروح إذ ترتعد في ارتقاءاتها الذاهبة
وترتج أوتارها في السبات
ولسيل يمنح الجدب أشلاءه
ولموت يمنح المصلوب صلاة السلام
ولكل البكاءات التي قد توصل الليل بالليل
ثم تذبل كزهرة عباد الشمس تئن بصمت مطأطئة رأسها
حين يستفحل الغيم
حين تحين لحظة الاغتسال في ضوء المرايا
والسر عظيم

4.
يشفق الليل على الصبح من لذة الكرب
يخلع عليه رداءه كي يبارك غياباته الغافلة
وكي يعلّل للحلم ما تيسر من قياماته الموجزة
ويشفّع موتاه في عبور بلا مئذنة
فتدغدغه فوضى البشارة
وقد زمّ الماء يده إلى لهفته، وأضفى على رحلته صفة الماء
 كيف تكون الصلاة ؟!
قالها..ومضي مستبشرا
ولم  يدرك
مدارك الريب
إذ يتعالى في غيّه
وإذ يروم صنع الحجاب
لم يدرك فورة الحزن التي خبأتها الرمال في جيوب القلب
وفي آخر جهات الصلاة
ولم يدرك أن المرايا يكشف عنها الحجب
وتقرأ السر في قراراته
 وإن كان مشدودا لحجاباته السافرة

5.
تقرأ السر في كلمات الحرز المطوّق للقلب
في الأظافر يزرّقها الحنين
وفي العظام إذ يتعالى فيها الوجيب
تقرأ السر في الصمت الراعف في سره
في رذاذ الرعاف
فيما تناثر من حكي الصوفي إلى ربه
في حلقات الذكر
في المسابيح تعانق عنق الدراويش في التجلي وتبكي
في الأدمع تطهّر أدران العشق وتغتسل في إثمها
في الشهقات ترتفع عند اللهاث
في عين الدرب مزروعة بالتوجس
في عصيان الشوق
وفي ذاكرة الرعشة
تقرأ السر العظيم




فنتازيا ربيع لم يجلب العطر

مجزرة عظيمة
مقبرة عظيمة
ملحمة عظيمة
والدماء هي الدماء
هكذا قال سكارى ينوحون قرب المقبرة
لا يدركون الفرق بين الحتف والزيف
يضاجعون أحلامهم المغبرة
مبللون بالعرق والشراب
يضحكون ويبكون معا
في زاوية ما
كانت مزرعة للأبقار يوما
أصبحت الآن فندقا ضخما
وغدا تصبح مزادا
وبعدها تصير مقبرة
هذه هي الحياة

**
الحياة محطة الأولى
والموت محطة ثانية
والمحطة الثالثة مجهولة حتى الآن

*
السمك يمشي حيا في الأسواق
وسياط الليل تجلد اللحم النيئ
ورائحة العفن تكنس روائح الياسمين
في البلدة الخضراء
وبلاد الماء تفيض بماء الصرف الصحي
والأطفال قطعوا مسبقا تذاكر عبور نحو الموت
والمطارات تعج بالرحلات السياحة
نحو المقابر والسجون
ظلال الفلاحين تحرث الأرض
فيما هم يضاجعون زوجاتهم في دروس البهائم
وفي الكهوف
وعلى شواطئ مهجورة

**
النساء يراقصن ظلهن المتخشب
عند حواف الماء
يفكرن في الاغتسال في عيون القراصنة
وزوار الليل
العشاق يلعقون لعابهم كلما مر طيف القمر مساء
ويتحسسون جراحهم التي حرقتها الشمس
الرذاذ يغسل ما تبقى من فيض الحكايات اليتيمة
ويعيد كتابة قصة الموتى بنهاية أخرى
المشهد يعيد نسج حكاياته وأبطاله
القيد المحكم يضحك بوقاحة
فتبين أسنانه السوداء والمتساقطة
ويشرب المخرج نخب الموت في جماجم الموتى
الكلاب تنبح تنبح
وعواء الذئاب يخترق الروح
**
قطارات تمشي على جثث الأحياء
تدغدغها بعجلاتها الممتدة
تضحك حين يأتيها صوت تكسر عظام الأطفال الهشة
والديناصورات التي تجلس في العربة الأولى
تبتسم لجمال الطبيعة في الخارج
وللطقس الربيعي المضمخ برائحة الدم
والفئران في حجم الثور الهائج تخرج بالملايين
تأكل الوراق البيضاء
 كي لا تسول نفس لكاتب أن يكتب




فراشات الجنان

إلى الأطفال الذي ارتفعوا للسماء
 بمظلات بيضاء في ربيع الموت
في ما تبقى من الحلم أنتم
في المسافة بين ضوء شمعة وهبوب الرياح
بين حد قيد يحز يد القصيدة
وهي تغزل صدارات الأماني بدفء
في التفاصيل الدقيقة لخفقة أخيرة للقلب
في النظرة الساهمة  تسرح في ملكوت الله
تهيم وتسمو ببطء جليل
تعلو وتدنو
بلا عجل يليق بالمعجزات
في صهيل الخيول في مراعي الأمل
وانتفاض النبل على صهوة العنفوان
يسكب أحلامنا في جفنة الأمنيات العزيزة
ويعلمنا كيف نحلم!
وكيف نرسم أحلامنا على الطين
في الحاسة السادسة
في الذاكرة المولعة بالقديم القديم
باللهفة تتساقط في الروع
توقظ المصابيح من غفلتها
وترسم حدود المسافات أقرب
من بسمة رب لطفل ضرير
ومن صرخة منكسرة في وجه العدالة الناقصة
ووجه العدل المكفهر الكئيب
ومن خبزة أم تطفئ المصابيح لتدرأ أشباح الجوع والبرد
عن ثديها الذي لا يدر الحليب
ومن تائه في رحاب البسيطة يسأل الرب
عن لعنة الجدب تطعن طفلة الماء في قلبها
وعن حنين الماء للماء
وعن اكتمال رغيف القمر في أيدٍ بلا أصابع
وعن منجل يدمي وجه الشمس
ويجزّ رؤوس السنابل قبل وقت الحصاد
وأظافر تباغت الأغنيات إذ تجلى رنين خلخال
 تجرح صمت المساءات بوشوشات الغناء
وتقلع عيون الرائي كي لا يرى
وتجرد الأكف من أصابعها
كي لا تكتب سيرة الغيم إذ يغشى وجه الماء
في انبلاج الفجر من عتمة الكون
أنتم
وفي انحناءة زهرة عباد الشمس للظلمة
إذ تستدير غصة في القلوب
نحن!


تراتيل موتى بعيون مفتوحة
  شهداء الربيع العربي 


لا ليل أطول من الغياب
ولا حلم أوجع من الموت
هكذا صرنا نردد ونحن في القبور
وزّعنا جهاتنا على عقارب الوقت
واكتفينا بابتسامة
مددنا أيدينا خارج الأكفان
 كنا نطلب في البدء عدلا
ثم صرنا نطلب الرحمة
أعيننا المفتوحة على اتساع اللهفة
تنتظر من يغمضها
تنتظر يد الوطن الذي تشتاق له حرا نبيلا
كي تموت في سلام
دماؤنا التي لم يكترث لها أحد
لا تزال حارة كأحلامنا
التي تقاسمها الأحياء تماما
وأوسعوها لعنات وشتاتا
حناجرنا التي صرخنا بها للحرية
 أصبحت مزامير للشيطان
أعيننا التي وسعنا بها الطرق
خانتها المسافات التي اتسعت بلا رؤية
ولا غراب يواري سوءة الموتى
ولا حكمة للبوم تشفع للطريق

2.
غدرنا الضوء والظلام معا
غدرتنا المسميات والرفاق
لم تعد لنا هالة القداسة التي كنا نحلم بها
والجنة رهن القيامة
صرنا جثثا لا تعد
مشينا خلف مصارع الوقت
وخلف حسابات الزمن
في الليل نرقب النهارات كي تضيء
لنبتسم قليلا
وفي النهار نكتب منشورات محمومة عن الخيانات والموت
كي نجنب غيرنا بعضه
نمشي بين البشر بأعيننا المفتوحة
وأجسادنا الناقصة
لنمسح على رأس طفل يخاتله الموت
أو رفيق محبط من الهزائم المتتالية
نسترضي التاريخ الذي قطّب جبينه
ليغير النهايات الكالحة
ولا جدوى




3.
العبث يتناسل في أروقة الخراب
نتشظى ونحن نلمح تلك البسمات الماكرة لكائنات الغاب
الثعالب والذئاب والعقارب الماكرة
نهز كتف الوعي لتنتبه شعوبنا النائمة قليلا
نغني للحرية المرتعبة والمغتسلة بالدم لتهدأ
ونصرخ بلا صوت في وجه تجار الخراب
تجار الدم
والجثث المتساقطة كالمطر
وفي وجه المتحدثين باسم الرب والدين والأوطان
تتناسل الخيبات على مرمى النظر
واللعبة تمتد
كل فريق بما لديهم فرحون
والدم الزاكي يصلي
يسيل فوق جرائد الوطن
يخرج من ألسنة مذيعي النشرة الجوية
ومن خوذات رجال الأمن
ومن أحذية الجند
ومن تحت أظافر المساء
ومن أقلام الكتاب
ومن أحلام السفهاء
ومن خراطيم الماء في الحدائق العامة
ومن لحاء الأشجار
وتشرق به حناجر العصافير إذ تؤدي فروض الغناء

4.
دم .. دم
يسيل .. يعربد
لم تبق في الوجوه قطرة دم
أو قطرة ماء
ديناصورات تنهض من غفوتها الكبرى
يأجوج ومأجوج يبدآن العد
والموتى يرتعشون
يصرخون كي تنتبه الغفلة
القصائد محنطة
واللغات فاجرة
والأحزان تواري الجسد المهدور
والدموع إهانة قصوى للوجوه اليابسة بلا ماء
الأكاذيب تتمادى في القذف بين فريقين بلا حرّاس
كل يرى نفسه صوت الرب ووجه الوطن المغدور
الزواحف تجلس قرب نوافير الدم
 تشرب بلا ظمأ فالدم وفير
وحيوانات تركض في الأزقة والطرقات
بأظافرها تنبش القبور وتأكل الموتى
كي لا يرووا الحكايات الصادقة
كي يلّووا عنق التاريخ المصاب بالزهايمر
المسافات تستطيل
بين الحلم والكارثة
والتاريخ يتراجع لزاوية ما كي يبري أقلامه
والموتى يبكون بلا دمع
بعيون مفتوحة
وفقط ينتظرون يد الوطن كي تغمض أعينهم !




إثم الكلمة

إلى: سجناء الرأي في كل زمان ومكان

1.
في البدء كانت الكلمة
وفي الخاتمة
منذ اللثغة والريق
وحتى الروح تصعد في أمر ربها
وهي تنشب أظافرها في هذا الكون
تكتب سيرتها العمياء على وجه الأرض
ندوبا لن تُمحى
تحفر بأظافرها كهوف العتمة
تتسرب كالماء
تخمش وجه الظلمة
وكقطة سيامية تجلس بدلال على أرصفة الفاقة
وتغني
أو تموء في تماهي العشق في قمصان الليل
تتعرى في اختلاجات الكون الذاهب في الرعشة
حين الشمس لغة أخرى
تتجلى حمراء حمراء
في رعاف الحرية يلوّن وجه الصبية في الحارات
وينساب مع الورس في جدائل السمراوات
تذهب في المعنى
تسمو
تسمو
وتصبغ كفوف العرافين بالحكمة والنور الأبهق
و صدى يتردد في كل زوايا الكون

 "لاااا "
2.

في البدء كانت الكلمة
في انبثاق النور من رعشة يد
تكتب .. تكتب
ترفع عنها غطاء الوجه كي تضحك أكثر
تتمايل وهي تزرع أغنيات الفجر في مفرق الضوء
وفي جبين الخدّج
وفي مسامات الفلاحين
والصيادين العائدين للتو بنشيد الفجر
تشرق في مقلة بحر هائم
تغازله
لا يرعبها العسس
ولا فوضى الأحلام
لا يثقلها الهم
ولا يعتريها الندم
تعض بنواجذها على الورقة وتنثال
التاريخ عاشقها الأوحد
تتدرب كل يوم على محاذاة خطاه
وتحيك له كل يوم كنزة بأصابعها العشرة
وتغزل سيرته الكبرى
3.

في البدء كانت الكلمة
الكلمة أرض
الكلمة روح
والكلمة خنجر
وعي يتجلى كصوفي ممسوس
خارطة أخرى للكون
الكلمة امرأة لا تفتأ حبلى
تنجب
تنجب
الكلمة عصفور يغني خلف الأبواب
وراء القضبان
وفي قلب العتمة
الكلمة نافذة لا توصد
أفق ليس له مزاليج أو أبواب
الكلمة أشرعة منفوخة
لا تنتظر الأجراس
ولا يعنيها الحراس
الكلمة وهج لا يحرق أصابع جلاديه
لا يفقه فلسفة العسكر
الكلمة نفحة عطر من روح الله
ومطر ينهمر كلما ادلهم الغيم
أو اشتد أوار الحلكة

4.
الكلمة أم تخبز كل صباح، وكل مساء
كي نشبع
الكلمة أحصنة برية ترعى في الفيء ولا تتعب
كركرة طفلية
شغف
نور
شهوة جامحة
عشق لا يعرف كيف يداري لهفته
الكلمة صخب الأطفال
وثغاء المرعى
وهفهفة الريح تداعب أقراط النسوة حين النشوة
الكلمة ساحات ملوّنة بالعبث الغض
بالنبل الأجمل
زغرودة فرح
أوردة تتورّد بزفرة آه

5.
يا أصدقاء الكلمة المحبوسة خلف ضلوع القضبان
الكلمة هذا اليوم لكم
تقولوها بالأرواح أو بالأجساد
أو بالصمت الأعظم
الكلمة .. يا أصدقاء الكلمة
رغما عن رعب القضبان
هذا اليوم لكم
كل الأيام لكم



ماء الذاكرة

1.
إلى:جدي محمد بن ناصر؛ والد الماء والدم

أيها الماء العذب
المتدفق برفق من تغضنات العينين
تستعيد الرؤيا كلما ادلَهَم الغسق
ومن انزمام الشفتين
 تبثُّ حديثا قديما
ومن تجاعيد اليدين
 ترعى السواقي
وتغيّر "الصوار" من شجرة "همبا"، لشجرة "تين"
ومن "ليمونة" شقية، "لبيذامة" حسناء
الماء الذي يخرج من تشققات قدمين
تعانق الطين بلا أحذية
وتترصد آثار الحب في غفلة ماء
الماء الذي يحتجز ضحكة جافة آخر الليل
يغسلها برضاب العشق
فتتورّد
ويغتال صرير المسافات
ويترصّد صهد المفازات
وصهيل الحزن في ذاكرة الماء
الماء الذي يحنو على طفولته الخضراء
إذ يركض حافيا في الطرقات
يعانق الغبار
ويتعثّر في أثواب الجهل
إذ تلتصق الحياة بوجهه الجميل
فيجليها الشغف
وترسم بقايا الحنين في  عود "التوريانة"  و "الياسمينة" و"قصب السكر"
فيضحك .. يضحك
ويرتد بعبث الماء إليك
الماء الذي كان طفلا، ولازال طفلا
ولازال ماء
ولازلتَ ماء
ترقبه ينمو بين يديك
تربتُ على ضحكته الذابلة
ودمعته الجافة كقبور "المدينة*"
تغسلها برائحة السدر والأقحوان
وتشعل فنارات المساء
تبث فيها الحنين
وتردم وجع الهواء بماء

2.
إلى الشهيد: عبدالله الغملاسي؛ شقيق الماء والدم ·

ماء أحمر
يتلوّى على القلب
يُغرِق الروح
يشقُّ حجب الليل
يصرخ "آآآه"
يبتهل للرب ألا يتجمّد
كي يروي سيرة الموت على أعدلهم
سيرة الخذلان الأرعن
للوطن المحبوب
*
ماء أحمر
يخرج مغاضبا وموتورا من مقلة عين
لاهثا، وضائعا، ومهزوما
من قلب الأم
تستشعر فقد الطفل الأكبر في ليل أسود
*
ماء أحمر
يسيل بوجع محموم
يشقّ دروب البغتة
يعانق الجسد المسجّى على أرصفة النهارات
الطالعة للتو من رحم الليل
يعمّد الكون بغضب حارق
ويعلن حنق الشارع
ولافتات المحلات
يعلن حداد الأشجار
والنخل السامق
و"السَمْر"· الفاتن
والغربان، و"براغيم الخور·"
وقناديل البحر، ونوراسه، وشواطئه
والموج المغدور
*
ماء أحمر
يحنّي أوردة الليل
كي لا تذبل؛ قبل أن تستعيد لهفته للماء
ويروي حكايته للصبح الأعشى
ويعيد رسم ما تبقى من أغنية الموت
ومن خلود الشهداء
 على جسد "الطارقة·" الخضراء
*
ماء أحمر
يغتسل في طلل الرعشة إذ تغادر الروح الطاهرة
الجسد المتحصّن بالعمر اليافع
يرتفع في امتدادات الصرخة "ملعون .. ملعون"
يتدفق عاريا من عين الفجر
من رئة "الكرة الأرضية·"
ويسيل على خرائطها الممتدة بحزن مجنون
*
ماء أحمر "حار جدا"
ممتزج بصدى "اللعنة"
بصرخات الرفاق
ورجفة الوطن
من أول غافة·
حتى آخر مهجة
وآخر أم
*
ماء أحمر
لوّن كل الماء
فكل الماء بعده "أحمر .. أحمر "
فالماء الذي ينزل من عين السماء قد صار أحمر
والماء الذي يجلس هانئا في "الحوض" أحمر
والماء الذي يخرج من "الشرعة" في مزارع "الديل" قد صار أحمر
والماء الذي يتذكر، ويكركر في لهفة المطر، إذ كنا نذرع ذات الدرب ؛ قد صار أحمر
والماء الذي يضحك قرب المقبرة أحمر
والماء الذي يشربُه الجندي حتى آخر العمر
 أحمر .. أحمر
والماء الذي يتحرك ببطء في العزاء أحمر
والماء الذي يمشي الهوينا حزينا مفجوعا في سواقي "الديل" وفي كل أفلاج عمان
 أحمر .. أحمر
ووحدك ماء أبيض
ينزل مع كل صوت أذان
ومع كل دعاء أم
يصلّي في سماوات الله
إذ ترتفع شهيدا في محراب الماء
يغسلك الرب بماء الغفران
وتغفو في سيل الرحمات
وتسكن جنتك الموعودة
أبيض .. أبيض

·  كتبت في 27 فبراير 2011 صحار،  صحم: بلدة "ديل آل عبدالسلام"
·  السمر جمع سمرة وهي شجرة صحراوية ذات رائحة عطرية. وهي "الأكاسيا"
· برغوم الخور : هو مالك الحزين بلهجة أهل شمال عُمان
· الطارقة : هي النعش الذي يحمل عليه الميت للمقبرة،  بلهجة أهل شمال عُمان
· "الكرة الأرضية" دوار أو ميدان يوجد في قلب مدينة صحار في محافظة الباطنة شمال عُمان، ويحمل مجسم للكرة الأرضية، وشهد تجمع شباب الاحتجاجات الشعبية فبراير 2011 وأزيل لاحقا.
· الغافة شجرة صحراوية تنبت بلا استزراع تشتهر بها عُمان