التخطي إلى المحتوى الرئيسي
"سوف أكتب رغم كل شيء، سوف أكتب على أي حال، إنه كفاحي من أجل المحافظة على الذات" كافكا

أسئلة الكتابة وتحدياتها

 

جريدة عمان - ملحق شرفات
الثلاثاء  24- 9-2013
فاطمة الشيدي
1.
- لماذا أكتب؟
- كيف علي أن أكتب القصيدة / النص؟
- ما المحرضات على كتابة نص شعري (الذات/ العالم/ نص آخر)؟
-  كيف أستجيب للدفقة الشعرية الأولى، وكيف أتجاوزها؟
- ما أهم ملامح النص الشعري التي عليّ مراجعتها بعد القراءة الأولى؛ لأشعر بالرضى عن النص؟
هذه الأسئلة وأسئلة أخرى كثيرة أخرى لابد أن يسألها لنفسه كثيرا، كل شاعر ذاهب لمنطقة الشعرية، أو مقيم فيها؛ ليتحسس الثبات على أرض القصيدة، ويذهب في الكتابة بروح شعرية جارحة، ووعي شعري ينمو ويكبر مع الزمن، عبر القراءات الشعرية المستمرة، والكتابة الدائمة والمجرِّبة، والمحاكمة النصية الواعية والمستمرة. بعيدا عن الغرور القاتل لجوهر الشاعر الشفيف، وإنسانه النبيل، وروحه الحرة، خاصة في البدايات-  مع أن الثبات يفترض القليل من الغرور الداخلي، والإيمان بوجود الشعرية عميقا داخله، والسعي الحقيقي والحثيث لإثباتها-  وبعيدا عن ارتباكة البدايات الحتمية، وبعيدا عن الذهاب وراء بريق المسابقات، أو حالة المناسبات في الكتابة، أو المديح المجاني، والمجاملات من الأصدقاء والزملاء والجمهور غير المتخصص، كجمهور الشاشات الضوئية، ومواقع التواصل الاجتماعي، والدربة والمران على الكتابة بشكل يجعل الكتابة حالة روحية، انفعالية، انسيابية لينة لاواعية، أكثر منها حالة متقصّدة ومتصنعة أو متخشبة، تماما كالعزف والرسم وغيرها من الفنون التي تخرج من الروح تماما.
2.
هل نكتب القصيدة، أم تكتبنا؟
أن تكتب القصيدة يعني أن تأتي لها، أن تجثو عند أقدامها وتتسولها أو تتوسلها، أن تحاورها، وتستحضر كل ممكناتك النصية واستحضاراتك الفكرية لتقولها، وأن تكون جاهزا للبحث هنا وهنا، في دفاتر الشعراء، وفي نصوص أخرى عنها ولها.
وأن تفكّر مليّا في كتابة فكرة عظيمة وجاهزة، سمعتها في وسائل الإعلام، أو قرأتها في الصحف كالحرب أو الحب مثلا، لماذا فكرة عظيمة؟ لأن الفكرة العظيمة أكثر قابلية للتجلي وأكثر تعاطفا معها، لذا ستبحث عن فكرة يصفق لها الجميع، ثم في مرحلة لاحقة ستحتاج لغة مناسبة أيضا، ستحك رأسك لتنحت القصيدة، ستبحث عن مفردات مناسبة، ولغة قابلة لتعبئة نصك الذي تحول هنا لفكرة (آنية) تبحث عما يملؤها من الكلام، وستثريها بالقليل أو الكثير من الصور والأخيلة.
الأمر هنا يصبح صناعة قصيدة وقتية، قصيدة “مناسبات” أو قصيدة “مسابقات”.
ولكن أن تكتبك القصيدة هي أن تغتالك تماما، أن تأتيك وأنت مشغول، أو غافل أو متغافل عنها، تأخذك من كل ما سواك وسواها، تسكنك تماما، تحتل أعصابك ووعيك وشرايينك، تجلس كجمرة في سويداء روحك.
قد تكون الفكرة أيضا لامعة وساطعة لنقل الحرب أو الحب أيضا، ولكنك ستكتبها هنا منك تماما، أنت مصاب بها، مرتهن ومشدود إليها، منسوج فيها، وهي بدأت تحتلك، وتنسج أعصابك تماما، تسيطر عليك، تذهب معك لكل مكان تذهب إليه، تستيقظ في نومك وغفلتك ولا تنام في انشغالاتك الخاصة، لذا ستكتبها من داخلك، أنت الجندي، أو القتيل أو أم القتيل أو طفلته، أنت الطعنة، أو الجرح، أنت الوطن والأرض، والنساء والأطفال والأشجار، والقصيدة أنت.
وستكون لغتك منك، وخيالك لك وحدك، وصورك مشتقة من دمك ودمعك، ومنسوجة من وجعك وجرحك، لذا أنت هنا لا تشبه غيرك، ولا تحاكي سواك، فنصك أنت، وأنت نصك، فتحضر القصيدة بروحها الخالصة وعاطفتها المشبوبة، منك لك فقط.
أن تكتب عن الحب يشبه تماما أن تكتب عن الحرب؛ فروحك مشبوبة، ووعيك خاص، ولغتك تشبهك، لذا ستجد نفسك تكتب القصيدة، مهما طالت في نفس واحد، وفي وجع واحد، وفي مزاج واحد، وفي حالة واحدة.
ستكون مأخوذا بها، وهي مأخوذة بك، أنت وهي في حالة عشق، وتقارب وكتابة تامة، ستفنى بين يديك دفعة واحدة، وستتعالى على الورق دفعة واحدة، وستتخلص منها فيك، وستخلص إليك، وستكون رائعتك دفعة واحدة.
هذا لا يعني أنها ستكون كاملة تماما، وخالصة من أي عيب، بالطبع لا، فهي قصيدة روحية تحتاج معالجة بوعي وهدوء، وهذا سيحدث لاحقا، ففي القراءة النقدية الأولى التي هي لك، حيث تتبع – بوعي هذه المرة – وهن اللغة، وهفوات الصورة، وستعيد ترتيب انثيالاتك المتدفقة, ولكنك لن تلمس العاطفة أبدا، العاطفة التي ستجدها حارة مشبوبة كما كتبتها بها، بل وقد تتعجب “ يا الله كيف كتبت هذا؟” أو باستغراب أكثر، ( يا الله من كتب هذا؟)
تلك هي قصيدتك الروحية الحقيقية التي كتبتك، والتي ستحتاج لاحقا فقط القليل من الاشتغال الذهني، والقليل من العناية، كتقليم أظافرها، وتشذيب أغصانها فقط، إنها الآن جاهزة وصادقة وحقيقية، هشة وطرية وعذبة، فاتركها، واذهب عنها قليلا، فقد رويت غليلك منها، وستحتاج أن تنسى ذلك العشق الموهن، وذلك الوجع الذي كتبت به بلا هوادة، وبلا رغبة في التوقف حتى التعب.
ستحتاج أن تغفل عنها قليلا، أن تبتعد عنها لتنسى وتأسى، وحين تشعر بالشوق لقراءة ما كتبك، وما سطّر دمك، وليس وعيك، روحك وليس ذهنك، ما كتبته القصيدة بك، وليس ما كتبته فيها، ستنبهر مما تجد، وحينها ستنظر إليها كنص خارجي تماما، وستضيف بعض التعديلات إلى بعضك الذي كُتبت به، ستعالجها قليلا ليأتي نصا يعجب الزراع .
3.
ثقافة النص أم ثقافة الناص؟
كثيرا ما نقرأ نصوصا مبدعة، مثقفة، جميلة، لبعض الشعراء، ولكن بفتح حوار عميق مع ناصها، تجده مرتبكا، يفتقر للوعي، وللثقافة العميقة التي تؤهله لكتابة ذلك النص، أو ما يماثله، تجد ثقافته ضحلة، ومستواه الفكري بسيطا، وحواره الشفهي سطحيا، وقراءاته شبه معدومة.
إن القراءة هي مادة الكتابة، والنص هو انعكاس لثقافة صاحبه، ولذا فالنص المثقف يفترض ناصا مثقفا، والعمق الداخلي للمثقف يجب أن يظهر جليا في حواراته، وحديثه، وثقافته عليها أن تتجلى في نصه وحضوره الثقافي في كل محفل. وإذا حدث غير ذلك فهناك خلل في مكان ما.
4.
لماذا ينتهي الحضور الأنيق والمبشّر لدى بعض الكتاب، وخاصة المرأة، بالغياب؟
سؤال يفرض نفسه كثيرا، وحالة واضحة في الوسط الثقافي، فهناك علامات بروز، وحضور، لدي بعض الشعراء، ولكن هذا الحضور لا يستمر، إذ ما تلبث البدايات أن تتحول لنهايات، ولعل الأمر يعود أن هؤلاء يأتون للكتابة وهم غير مؤهلين للاستمرارية ضمن فكرتها، التي تستحوذ على الأهم والأكثر والأكبر من عمر الإنسان ووقته وفكره، وبالتالي فإنهم ينحازون مع أول مفترق وتخيير، لأولويات أخرى أكثر قيمة كالمادة والعمل والأسرة، مع أن الكتابة ليست ضد هذا تماما.
وربما يحبط بعضهم من أول نقد وتحليل، ويصابون بالهلع من هول الفكرة، ويتراجعون نحو عوالم أكثر راحة وجمالا ونفعية.
وإن كان هذا الأمر يحدث مع بعض الرجال، إلا أننا نجده أكثر وضوحا عند النساء، فكم من نجمات تخرج، وتسطع، ثم تخفت وتنطفئ تماما. فحضور المرأة المثقفة أو الكاتبة ينتهي غالبا بعد فترة قصيرة من ذهابها في فعل الثقافة، بحيث لا تواصل مشوار الكتابة إلا قلة من المبدعات المؤمنات بقيمة الكتابة، وقيمة الفعل الثقافي.
وهناك العديد من الأسباب لهذه الظاهرة مثل: دور الوسط الثقافي “الذكوري غالبا” في إقصاء المرأة بشكل مباشر أو غير مباشر، أو مضايقتها بأساليب واضحة أو خفية.
وهناك أيضا قلة إيمان المرأة بقيمة الكتابة أو عدم صدق وعمق هذا الإيمان، بحيث تتخلى عنها مع أول منعطف أو منعرج حياتي، أو تفضّل عليها أدوارا أخرى أكثر أهمية كالبيت والعمل والحياة والترفيه، والكتابة فعلا تقتص ولو بشكل جزئي من كل هذا، وربما مشاغل المرأة تمنعها لاحقا من مواصلة المشوار الذي يحتاج الكثير من الوعي والقراءة والإخلاص للفعل، فقد تجد نفسها غير قادرة على تحمل هذا العبء النفسي، وربما لا تملك المرأة من الحرية أو من الوعي ما تدافع به عن حياتها وخياراتها الوجودية والإنسانية، فتدخل الأسرة والزوج في حياتها، يحول دون استمرارها في الكتابة. وربما هناك أسباب أخرى.
5.
لماذا يغيب النقد غالبا، ويقصر عن موازاة التدفق الإبداعي، ويغفل عن متابعة التجارب الجديدة؟
إن غياب النقد حالة حقيقة وواضحة في جميع الأوساط الثقافية، لعدم وجود اهتمام من المؤسسات والنقاد على حد سواء بالإبداع، فالناقد ينتظر “غالبا” دعوة من مؤسسة لندوة أو مؤتمر لكتابة ورقة نقدية حول ظاهرة أو مبدع، أو يصب جلَّ اهتمامه على التجارب المتحققة أو التجارب الصديقة.
في حين تربط معظم المؤسسات الثقافية الحكومية والأهلية النقد والإبداع معا، بالمواسم والمناسبات الثقافية ضمن أجندات خاصة بها، مما ساهم في صناعة حالة ثقافية راكدة، أو موسمية مصنوعة على عجل غالبا، ولا تهتم بالمبدع، الذي لا يعني إصدار كتابه (مثلا) شيئا لهذه المؤسسات، التي لا يدخل ضمن جداولها وأجنداتها أمسيات نقدية مستمرة ولو انطباعية أو احتفائية بالكتب والمبدعين، ولا بالناقد الذي قد لا يتحصل على أي قيمة مادية عن تقديم ورقة نقدية مشتغل عليها بعناية ووفرة ووقت كبير مستقطع من عمره الحافل بالمشاغل والمرارات.
كما عمدت لتدشين حالة من الرسمنة المظهرية للفعل الثقافي داخليا وخارجيا، وهو ما لا يليق به. حيث يتجلى حضور النص والمبدع، والناقد في طقوس رسمية احتفائية تحيل الثقافة لحالة من  الصنعة الباهتة، مما يوهنها ويقلل من بريقها وجمالها المفترض، ويحول بين اندماج فعل النقد مع الإبداع -وهما وجهان لعملة واحدة- أو مع المجتمع الذي على الثقافة أن تسعى له، وتجعله هدفا أساسيا لفعالياتها، ومواسمها الثقافية.
إن وجاهة الثقافة، الخاضعة لقوانين المؤسسة الرسمية والاجتماعية، والمأخوذة بطقوس التلميع، والاحتشاد بالبريق، والذهاب في التقديم والختام للأسماء والمكانة والمناصب، ورسميتها المعنية بالمنصات والفعل المرسوم، من جهة، وتراتبية هذا الفعل في مواسم محددة، وأسابيع ثقافية، ومسابقات رسمية، وأسماء متكررة، وفعاليات باهتة، تكون هي الهدف الأساس، وليس المبدع أو الإبداع؛ خَلَق حالة من الإحباط والبعد لدى المبدع والناقد الحقيقيين.
وكم كان سيكون جميلا لو أن هذه المؤسسات صنعت فعلا ثقافيا “داخليا” جميلا وعميقا وبسيطا ومستمرا، خارج فكرة الهالات والاحتفالات والمواكب والبروتوكولات الرسمية المملة والتي لا تؤتي ثمارها إلا للبعض من محبي الهالات، بتخصيص أمسية نقدية اسبوعية لكل كتاب صدر حديثا، للاحتفاء بأرواح المبدعين وخاصة الجدد، وتعريف المجتمع على نتاجاتهم ببساطة وبلا تعقيدات شكلية في لقاء ودي فكري أقرب للحوار. وكم سيكون رائعا لو أن أمسية تقام على جبل، أو على شاطئ بحر، أو في مدرسة غاصة بطلابها، أو في جمعية المرأة، أو نادي رياضي أو .. أو ، في المحافظات والولايات البعيدة، مما يلامس روح المكان والإنسان والمبدع والإبداع، ثم يُفتح المجال للمناقشة حول النص من الجميع. وكم ستخفف هذه الحالة من قلق المنصات وسطوة المناسبات المتخشبة أو المسدودة الجهات بحيث لا تسمح بدخول الهواء لتجديد الحالة الثقافية. وكم كان سيكون عظيما، لو تقام “إقامات إبداعية” لإنتاج نص إبداعي جماعي، أو نصوص فردية، بمشاركة فعلية للمواهب الجديدة والمتميزة كطلاب مبدعين في الجامعة أو مراحل التعليم العام المتقدمة، بالتلاحم مع مبدعين متحققين فعلا من الكتاب داخليا أو باستضافة البعض خارجيا، ثم يعرض على نقاد وقراء في نفس الفترة، وفتح باب المناقشات على طاولات مستديرة.
وكم سيكون مبهرا لو تقام حلقات كتابة نقدية، لعدد من المبتدئين في النقد، أو الراغبين فيه أو حتى المبدعين المهتمين به، لتوضيح بعض أساليب النقد، وأدواته وآلياته، وتقديم مفاتيح أساسية للذهاب نحوه.
وكم وكم وكم سيكون جميلا لو جعلت المؤسسة الثقافية الرسمية والأهلية، الثقافة والمبدع (كاتبا، وناقدا) في كل مكان من عمان (فقط )، بلا غايات أخرى، نصب عينها، وعملها، ومنحته تقديرها واهتمامها، لتساعد في صناعة حالة ثقافية عميقة، ومناخ ثقافي صحي قائم على الوعي والحرية والجمال، يرقى بالثقافة العمانية، ويسهم في مواجهة تحدياتها.

تعليقات

‏قال hindalnizary
السلام عليكم
تحية إجلال لهذا القلم والكثير الكثير من الإعجاب ،وبعد
استوقفني عزيزتي كلامك عن البدايات التي سرعان ما تتحول إلى نهايات خاصة عند المرأة ، حيث تبدأ المرأة أو على الأقل تظن أنها بدأت ثم لا تلبث أن تنتهي ..
قرأت ما كتبته عزيزتي وأنا ألملم أوراقي متجهة نحو النهاية بقدم وماتزال الأخرى على أول الطريق ..
ما قلته عن عن أسباب ذلك منطبق علي في معظمه باستثناء الإيمان بأهمية الكتاية فأنا أعيش الشعر حين أكتبه وأعيشه حين يكتبني ، أعيشه أنفاساً تعبر بي إلى الحياة ، أعيشه هوية أعثر بها على نفسي كلما ضعت في التفاصيل الأخرى .
ولكن يا عزيزتي ما قيمة أن تصهر شاعرة نفسها وتذيب قلبها وتنكث كيانها وتعيد غزله في مقابل أن تحظى بصفحة على موقع تواصل اجتماعي قد لا يعبرها إلا أقل القليل ..
ما قيمة كل ذلك حين ترى أن شعرها الفصيح الذي عبر كيانها كله ليخرج إلى النور ليس إلا سلعة كاسدة لا رواج لها في سوق لا يعترف إلا بالشعر النبطي لأنه مطلب الجمهور ودائرة العرض والطلب ، وإن استوردت له بعض سلع عابرة من الفصحى فيشترط لترويجها ألا تكون بتوقيع أنثى
دعونا عزيزتي نحمل أشلاء قصائدنا المكلومة ونعود من حيث بدأنا ولا تلومونا على الانهزامية والتراجع فلابد مما ليس منه بد.
لك مني مزيد الإعجاب والشكر
هند النزاري - المدينة المنورة
العزيزة هند تحياتي الوافرات لقلمك الرائع، بالعكس عزيزتي علينا - مادمنا مؤمنين بالكتابة- التشبث بالقشة والمثابرة على تعلم السباحة ضد التيار، فيوما ما سنصل، وسنقنع كل الوجود بقيمة مانكتب.
يجب أن لا نيأس وأن نتحلى بالصبر والإيمان .. أكتبي لك ولي ولكل النساء اللواتي يحتجن لما نكتب.
هند أرجوك استمري وسأفخر لو أقرأ ما تكتبين .
أرجوك واصلي وتواصلي .
فاطمة