http://main.omandaily.om/node/68423
الثلثاء, 27 سبتمبر 2011
ملحق شرفات - جريدة عُمان
فاطمة الشيدي
إلى الموت
إلا الأمهات والأطفال ..أيها الموت:
أنت تعلم جيدا أنك في كل وقت ومناسبة زائر ثقيل وبغيض، قبيح وبشع وغير مرحب به أبدا، خاصة من أولئك الذين يفقدون حبيبا غاليا، كانت روحه الخضراء تنشر أريجها في صيف زمانهم، وتعطّر مكانهم، وتستبيح أجسادهم كحمى تخضهم حتى الوهن.
ربما يحتاجك العاطلون عن الحياة وعن الحب، ومن خذلتهم الروح والفرح، كما قد يحتاجك بشدة الذين أكلهم المرض، وخذلتهم الأجساد والأهل والصحبة، أولئك الذين يصبحون عبئا على الحياة والأحياء।ولكنك بلؤم متقصّد تترك كل من يبحث عنك، كل من يطلبك ويناديك وتذهب إلى أرواح نضرة بالمحبة، مشعة بالبهاء، تبني قصورها الرملية بعيدا عن فكرة حضورك المخاتل والجبري، أرواح تذهب في خطواتها الأولى نحو الله والبشر والمحبة والحياة. فتأتي إليها بغتة وبخبث مقصود، ترتدي زي "بابا نويل" أو "سبونج بوب" وتجلس في مقدّمة سيارة مسرعة، وتمد يدك لروحها الخضراء فتأتي طامعة في القليل من الدهشة والفرح، فتخطفها بسرعة، وتضعها في كيسك الكبير، الذي لا يحوي الهدايا بل الأرواح، تغريها بالفتنة والحليب والشكولاته والمصاصات الملوّنة حتى تقبض عليها، وتترك الجميع مذهولا من قدرتك على تغيير ثوبك الأسود البشع، والتخفي في لون وردي يشبه لون "فلة" أو "باربي" وأنت تغادر بهم نحو السماء، هناك حيث ينفلتون من بين يديك إلى حدائق الرب طيورا مرحة، لا تعرف كي هي حرقة من يعيشون على الأرض في غيابهم!
كما تتشكل بخبث في الصدور والأرحام كأجنة منتظرة أو أحضان مترقبة، تلك الأرحام الذاهبة في حلمها كي تهب هذه الحياة الطفولة والحب والحليب، لكنك تذهب هناك تماما، تتشكل وتستدير وتتهيْكل وتكبر كوحش صغير، يكبر في الأعماق بخبث وروية واستتار حتى يستكمل دورته وحياته الجهنمية فيأكل صدر أمه ورحمها، يأكلها ببطء حتى تذهب في التلاشي والاضمحلال، في الذبول والنحول، يأكل الرحم الذي يتكوّر فيه البشر بحنان وماء، الرحم الذي يحمي من كل الوجود والموجودات، الرحم الذي تحن إليه الخليقة كلها من السهاد حتى الرقاد، ويأكل الثدي الذي يرضع الوجود الحليب والحنان والدفء والمحبة، الحضن الذي يحمي من الجوع والعطش، ومن البرد والحر، ومن التعب والبكاء.
أيها الموت:
كيف يتنسى لك ذلك؟ كيف يخطر على بالك أن تشترك مع السرطان في القتل البطيء، والذبح الحرام، والموت القبيح؟ كيف تستطيع أن تفعلها؟ أن تأكل الأرحام التي تنجب البشرية كجرذ مسعور؟ وتنهش الصدور التي ترضع الحب والحليب، كأفعى وضيعة؟ كيف بكل خبث ودهاء ومكر وبطء ولذة مسعورة تأكل الأمومة كلها، جمالها ودفئها، عذوبتها وحنانها؟ فتصير بدلا من أن تفرح إذا تقدم للوجود حلما وفردا تحلم أن تسقيه وتطعمه وتربيه حتى يكتمل بها وتكتمل به، وترى خطواته الطرية تتجالد وتقوى كل يوم وتكبر حتى الفرح الأكبر والأهم، فتنتصر أحلامها به، ويضعف جسدها في قوته، وتتجدد حياتها في شبابه، تصير بعد كمينك المغرِّر بالوطن الأول، واللقمة الأولى و"الممممم" التي لا تذبل على الشفاه كمناغاة أزلية، لا تملك إلا تهبك يدها الضئيلة وتطلب منك بوهن ومجاهدة أن تأخذها إليك بسرعة، أن تخلصها من هذه المعاناة، وأن ترحمها من الشفقة والضعف، فتذهب مخلّفة أطفالها وأحلامها للآخرين ناقصة، كقصة لن تكتمل إذ مات مؤلفها بغتة، تسرق كحل أحلامها، وحنان صدرها، ودفء رحمها، تسرق أمومتها وتغيبها في سراديبك المظلمة.. فتذهب مخلفة لأطفالها جرحا لا يشفى، وصدعا لن يلتئم، وشرخا لن يرتق، ويتما يستدير كغصة في الروح من المهد للحد.
أيها الموت: رفقا بالأطفال والأمهات!
تعليقات