فاطمة الشيدي
10_10_2018
جريدة عمان - مقامات
تبدو النهايات جميلة غالبا. تثير داخلك بهجة ما، وتضفي على كل شيء جمالا سحريا بديعا. حتى النهايات الحزينة تبدو جميلة، هادئة ومريحة. فكل ما يشارف على النهاية يصبح بهيا أنيقا؛ كل مكان تفارقه يتحول لذاكرة حنينية، وكل شخص تودعه تشعر تجاهه بالشوق ما أن يذهب. بل حتى أولئك الذين لا ترتاح لصحبتهم تمنحهم السلام في الذهاب، ومن آذوك تمنحهم الغفران غالبا.
ثمة شعور غريب بين الفرح والحزن يشبه الحب كثيرا يتلبسك ما أن تشرف على نهاية شيء ما، إحساس عذب ومعذِّب في ذات الوقت تستشعره كل نهاية؛ نهاية رحلة ما، نهاية علاقة، نهاية نص، نهاية حلم، نهاية مشروع، نهاية كتاب، نهاية دراسة.
ذلك الإحساس العميق والمريح، ذلك النفس العظيم الذي تأخذه بقوة بفرح ونظرة للخلف، متغافلا عن كل المنغصات التي مرت، والإنجازات الذي حصدت أو الخسارات التي منيت بها، كل شيء ذهب والسلام وأنت الآن خارجها وداخل فكرة النهاية وضمن حنين الغياب.
النهايات بداية الغياب ونهاية الحضور. اللمحة الأخيرة لحالة تجلٍّ ستصبح عما قليل من الماضي. النهاية التي تتشكل لتصبح بعد وقت قليل بداية ما للشيء أو اللاشي. البدايات مرتبكة ومربكة غالبا محفوفة بالشك والجهل وروح المخاطرة في الولوج، أما النهايات فهو ناضجة ومستوية بالجمال والمعرفة، هادئة في عبورها نحو اللاشيء الملتذ بالنشيج الضمني والبعيد.
البدايات محددة كالسهم في انطلاقه لهدف ما، أما النهايات فلا شكل لها فهي مفتوحة على مطلق التلاشي، وعلى الغياب المجرد واللاشيء المحسوس، ولذا فلها لذة المجهول ورائحته ولمسة العدم ورؤاه، ولذا فمشاعرك المادية تتأرجح في الفهم في مواجهة اللامادي. وهناك تشعر بنشوة القادم الغريب، والبعيد في تشيؤه اللاحقيقي ونشوة الذاهب في تلاشيه المطلق الحالة التي لاتملك معها إلا التداعي في حالة من الهلامية البينية والذهاب في حالة بهجة خرافية لاتدرك مصدرها، والتذاذ حنيني بماهو ذاهب قبل أن يذهب، وبما حاضر بعد حضوره وقبل أن يتلاشى. فالنهايات تقع على شفرة الحضور والغياب معا، ولها سطوة سحر الغياب ولذة السطوع الحاضر ولذا توقظ داخلك ذلك الإحساس بالجمال الغرائبي والبهجة المرتبكة والحزن الدافئ والحنين المعذب قبل أن يتشكل كل شيء غيابا ويسقط في الغياب والنوستالجيا معا.
فاطمة الشيدي
15_10_2018
15_10_2018
المعجزة الحقيقية هي الهبة الربانية الكونية التي تأتيك بلا تخطيط لتجعلك سعيدا، هي الحلم الذي يتحقق بلا سعي منك أو بسعي بسيط، هي النجاح والسعادة، هي روح الرب المبثوثة في قوانين الكون التي باتحادك معه كعنصر من عناصره؛ تحميك وتساعدك وتشفيك فتشعر بالرضا والسعادة. هي ذلك اللطف الخفي الذي يأتيك بقدر ما تؤمن به، وبقدر ما تعطي أنت وتساعد وتتحد مع روح الرب وروح الكون.
المعجزة الحقيقية تحدث داخلنا في أرواحنا وقلوبنا التي تستشعر الرضا والسعادة والوعي، وبقدر ما نؤمن بها تأتينا، المعجزة هي في قلب يشعر بك، وكف تمتد لتسندك، وفرح يغمر يومك، وجمال يقبض على روحك، المعجزة هي عمق انتماء روحك للرب وللكون وتجليات ذلك الانتماء سعادة وبهاء، وليست تلك الخوارق الميثلوجية التي يتم تناقلها عبر الأزمنة والأمكنة. إنها هي الحب والخير والجمال الذي منبثقا من ذاتك ومرتدا إليها.
في فيلم Miracles from Heaven الذي شاهدته مؤخرا والذي يبدو من زاوية ما ساذجا ولا منطقيا ولكنه من زاوية أخرى يقدم فكرة عميقة حول الإيمان والمعجزة الشخصية، حيث تصاب فتاة وهي الطفلة الثانية في عائلة مكونة من الأم والأب وثلاث طفلات بمرض غريب لا دواء له فعليا في المعدة يجعلها تتألم طوال الوقت حتى تتمنى الموت.
العائلة المؤمنة جدا والملتزمة دينيا بواجبات الرب كالصلاة وزيارة الكنيسة أسبوعيا تظهر إيمانا من قبل الوالد وتذمرا وابتعادا عن الرب من قبل الأم التي حولت جل اهتمامها وحياتها لتحصل ابنتها على علاج ما لحالتها، في البدء طبعا كان التشخيص لا يرى أي مرض في معدة الطفلة، لكن إصرار الأم التي عرفت بقلبها وعاطفتها أن ابنتها تعاني مرضا خطيرا؛ مكّن من اكتشافه، ثم كانت رحلة البحث عن علاج بالسعي والبحث تارة وبالاستعطاف حين لزم الأمر.
وحين عجز الطب وأوضح الطبيب أن هذا المرض لا دواء له وأنه سيحاول علاجها بالتجريب والمسكنات فقط؛ حدثت المعجزة، فسقطت الطفلة في عمق شجرة كبيرة بجوار المنزل كانت تتسلقها مع أختها من باب اللعب والتسلية. وقد فقد الجميع كل أمل في نجاتها إلا أنها - وكما أوضح الطبيب بأنها معجزة- لم تصب بأي أذى، بل كانت المعجزة الأكبر أن الفتاة تخلصت من مرض المعدة الذي هو مرض عصبي أصلا ربما نتيجة الاصطدام كما وضّح طبيب الأطفال المختص.
أدركت الأم لاحقا حقيقة الإيمان الذي يستجلب الجمال المبثوث في الكون ولذا هرعت لطلب العون من الرب. واستحضرت في كلمتها في الكنيسة في مؤتمر صحفي عن مرض طفلتها مقولة انشتاين "يوجد طريقتان للعيش إما أن تعيش وترى كل شيء معجزة، أو تعيش ولا ترى أي شيء معجزة".
العيش بأن ترى كل شيء معجزة لا يعني التسليم بالخوارق والميثلوجيا وتبنيها، بل يكون في الإيمان بروح الرب القادرة وبقوانينه الكونية التي تتحد مع روح الكون لتقدم السعادة للإنسان إن أخلص لها وسعى إليها، وهناك تتحول كل الأشياء الصغيرة والعادية لمعجزات، وتمتلئ الروح بالسكينة والرضا وتلهج بالحمد والامتنان وتلك هي السعادة الحقيقية.
العيش بأن ترى كل شيء معجزة لا يعني التسليم بالخوارق والميثلوجيا وتبنيها، بل يكون في الإيمان بروح الرب القادرة وبقوانينه الكونية التي تتحد مع روح الكون لتقدم السعادة للإنسان إن أخلص لها وسعى إليها، وهناك تتحول كل الأشياء الصغيرة والعادية لمعجزات، وتمتلئ الروح بالسكينة والرضا وتلهج بالحمد والامتنان وتلك هي السعادة الحقيقية.
5/10/2018
إلى بشرى خلفان وأخريات
غالبا مايُحدث خبر إصابة امرأة شابة بالسرطان صدمة كبيرة للجميع، خاصة إذا كانت قريبة منك، ربما لأننا جميعا نعتقد في المرأة القوة والجمال، وقد نعتقد أنها لا تمرض بمرض خفيف فكيف بمرض خبيث كهذا المرض الذي تتطير منه الذاكرة الشعبيية العربية، فالحيوية والجمال والشساعة الروحية التي تتمتع بها المرأة غالبا، والصداقة الكونية والعطاء التي تمنحها للكون والأبناء والأصدقاء مع كل مصافحة وعناق وابتسامة يجعل الجميع لا يتقبل مرضها، كما يجعلنا نحن النساء أكثر قلقا لأنها نحن. ونظن دائما أننا بخير وأنها/نحن في منأى عن كل شيء إلا عن المحبة.
ولكن المرض يختار أيضا كما تتناقل الذاكرة الشفهية الشعبية، يختار الأجمل كما يختار الأقوى أيضا، ولذا ربما يختار المرأة كثيرا، المرأة التي ستتعامل مع هذا المرض القبيح بتلك القوة الداخلية والجمال المشع وستواجهه بالمحبة والصمود، فهي غالبا لن تتعامل معه بخوف مربك، ولا بتكتم مريب، بل ستواجهه بشجاعة تجعل الجميع ينحني لها، ويدرك تلك القوة الداخلية النفسية والإنسانية التي تتمتع بها، وذلك الصدق الرائع الذي تتحلى به روحها الطيبة.
ستخبر الجميع عن مرضها ومراحله لتشركهم فيه، ولتستعين بهم عليه، ولتطمئنهم عليها. ستشرح بصدق طريقتها في التعامل معه ومع خوفها منه، وحيرتها أمامه، ستشارك الجميع مراحل علاجه وكيفية مواجهته بعناد، وستصدّر قلوب من تحب _وهم كثر غالبا _ في مواجهة الضعف والكيمو لتكون أقوى، أو لتستقوي بدعوات الأحبة والأصدقاء.
ثم ستتقوى بالمعرفة عليه، فالمعرفة هي مصدر قوة الإنسان. فستقرأ الكثير مما كتب عن هذا المرض من مقالات واعترافات وروايات وكتابات عامة لتعرف كيف تتعامل مع هذا الوحش/القريب، ولتقول للجميع ولذاتها قبل أي أحد أن المرض لا يختار كما لا يستثني أحدا وإلا لكنت أنا.
ستواجه المرض من الداخل بأن تتقبله كمحنة طارئة يجب أن تتعامل معها بحكمة وقوة، كما ستواجهه من الخارج؛ فستختار أصعب الحلول الطبية العلاجية، وأكثرها أمانا واطمئنانا رغم كل الاحتمالات والعواقب التي ستتحملها برضا وقناعة وقوة أيضا، ثم ستواجه تلك العواقب المزعجة والمتعبة جسديا وروحيا بأن تتجمل أكثر، وتحب الجميع أكثر، وتخرج وتقرأ وترتاد المطاعم، وتمشي في الأروقة، وتعانق الأمكنة والبشر وتفرد أجنحتها كطائر يتعشق الطيران، وستستمع لأجمل الأغنيات خاصة لفنانات أصبن بهذا المرض وشفيْن منه. وستتشبث بالجمال أكثر وأكثر، وستصبح أكثر وأكثر وأكثر المرأة الكونية ابنة الجمال والمعرفة.
ولن تنطوي أو تتحسس ولن تتعامل مع كلمات الشفقة والخوف إلا على أنها حنانات قصوى لا يجد المحبون طرقا أخرى للتعبير بها عن مواساتها ومشاركتها الوجع والدعاء لها بالشفاء، وهذا ما ينبغي للحسناء التي تهزم بالمحبة كل شيء.
ستكون في السطح قوية متماسكة ولكنها ستحرص على أن لا تُفهَم على أنها قوية أكثر مما ينبغي أو أنها خارقة في ذلك، فهي امرأة في مقتبل العمر، متشبثة بالحياة، وهذا المرض العضال يهدد وجودها وجمالها ومحبتها للحياة، فهي خائفة كما ينبغي، وقلقة كما يجب، ولكنها مستقرة وهادئة كامرأة ناضجة روحيا وعقليا وعليها أمام العقبات أن تثبت بجدارة عمق إنسانيتها وقوة روحها لتتجاوز تلك المحنة، وذلك الخطب.
وستمضي في رحلة الشفاء بكل إمكانياتها النفسية والجسدية وهي تمسك بكل يد تمتد لها بمحبة لأنها تدرك أن المحبة هي علاج كل الأمراض والأوبئة العابرة والمزمنة الجسدية والنفسية. فهي طويلا وكثيرا كانت تحيا بفضل المحبة، فتصر عليها في فترتها العصيبة وتصر أن تتجاوزها بالمحبة.
وبالمحبة وحدها ستستأنس السرطان، وتروضه بجمالها الداخلي كوحش تجبره الجميلة على الخضوع لها.
ستحاول أن تغيّر نظرة العالم لهذا الوحش كما فعل قبلها الكثير من النساء القويات عاشقات الحياة، فتجبر العالم على التعامل مع ذلك الوحش على أنه محنة عادية أو اختبار ما كأي مرض أو خذلان أو خسارة أو وهن، تلك العقبات التي هي جزء من الحياة تماما.
وذات يوم ستحول هذه المعاناة لنص من أدب الاعتراف، أو لوحة فنية أو أغنية، أو ذاكرة تستقوي بها على الشدائد. تلك الأعمال التي تحقق الخلود لجمالها وصدقها، لأنها تحكي بصدق عن الجميلة التي روضت الوحش ومسحت على رأسه لينحني لقلبها الطيب وروحها النضرة بالمحبة، ويخضع لجمالها فيصبح رهن أمرها، وحين تطلقه بعيدا سيكون ضعيفا، وسيذهب أبعد ما يكون عنها، سيكون مجرد حكاية من حكايات الحياة الكثيرة ومن ذاكرة الإبداع الإنساني، سيكون ذكرى بكل مالها وما عليها من آلام وآمال.
وهل الحياة إلا ذلك؛ حكايات بين الفرح والسعادة تتداخل لتشكّل ذاكرة الإنسانية على مدى الأجيال، والحسناء ليست استنثاء في المحنة وإن كانت كذلك في التحدي والتصدي لها بقوة وجمال.
الكثير من النساء يمثلن هذه الحسناء التي تستثير الغيرة ببجمالها وقوتها ولكنني أقصد المرأة المبدعة فهي أكثر من حسناء لأنها تجمّل الكون أيضا بنص رائع يظهر بين زمن وآخر بين غلافي كتاب، وتعيد تشكيل الوعي الإنساني دائما لصالح الحب والخير والجمال.


